للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عُمَرُ وَانْطَلَقَ بِشْرٌ وَجَاءَ الصَّيْفُ وَانْهَزَمَ الشِّتَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِعْلَ يُفَادُ مِنْهُ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ، فَقَوْلُكَ: قَامَ زَيْدٌ، أَيِ: الْجِنْسُ مِنَ الْفِعْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جَمِيعُ الْقِيَامِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ جِنْسٌ، وَالْجِنْسُ يُطْبِقُ جَمِيعَ الْمَاضِي وَجَمِيعَ الْحَاضِرِ وَجَمِيعَ الْآتِي الْكَائِنَاتِ مِنْ كُلِّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقِيَامُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي مِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ مُضَاعَفَةُ الْقِيَامِ كُلِّهِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْوَهْمِ، هَذَا مُحَالٌ عِنْدَ كُلِّ ذِي لُبٍّ.

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ قَامَ زَيْدٌ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَضْعِ الْكُلِّ مَوْضِعَ الْبَعْضِ لِلِاتِّبَاعِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَنِسْبَةُ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى انْتِظَامِ ذَلِكَ بِجَمِيعِ جِنْسِهِ أَنَّكَ تَعْلَمُهُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَتَقُولُ: قَوْمَةً وَقَوْمَتَيْنِ وَقِيَامًا حَسَنًا وَقِيَامًا قَبِيحًا، فَإِعْمَالُكَ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ ; يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُمْ عَلَى صَلَاحِهِ لِتَنَاوُلِ جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصَادِرِ فِيمَا فِيهِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، أَلَا تَرَاكَ لَا تَقُولُ قُمْتُ جُلُوسًا وَلَا ذَهَبْتُ مَجِيئًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَحْبَبْتُكَ الْحُبَّ كُلَّهُ، فَانْتِظَامُهُ لِجَمِيعِهِ يَدُلُّ عَلَى وَضْعِهِ عَلَى اعْتِرَافِهِ وَاسْتِيعَابِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ:

وَقَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا ... يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَنْ لَا تَلَاقِيَا

فَقَوْلُهُ كُلَّ الظَّنِّ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُنَا زَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، تَعْرِيفُهُ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، كَقَوْلِكَ: الْأَسَدُ أَشَدُّ مِنَ الذِّئْبِ، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ خَرَجْتُ وَجَمِيعُ الْأَسَدِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الْوَهْمُ عَلَى الْبَابِ، هَذَا مُحَالٌ وَاعْتِقَادُهُ اخْتِلَالٌ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ خَرَجْتُ فَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ بِالْبَابِ، فَوَضَعْتَ لَفْظَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالتَّوْكِيدِ.

أَمَّا الِاتِّسَاعُ فَبِأَنْ وَضَعْتَ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَأَمَّا التَّوْكِيدُ فَلِأَنَّكَ عَظَّمْتَ قَدْرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ أَسَدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِثْلُهُ قَعَدَ جَعْفَرٌ وَانْطَلَقَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ اللَّيْلُ وَانْصَرَمَ النَّهَارُ.

وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ نَحْوَ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَزَّ اسْمُهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَلَقَ أَفْعَالَنَا، وَلَوْ كَانَ خَالِقًا حَقِيقِيَّةً لَا مَحَالَةَ لَكَانَ خَالِقَ الْكُفْرِ وَالْعُدْوَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْعَالِنَا، وَكَذَلِكَ عَلِمَ اللَّهُ قِيَامَ زَيْدٍ مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَيْسَتِ الْحَالُ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ عَلَيْهَا قِيَامَ زَيْدٍ هِيَ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ عَلَيْهَا قِيَامَ عُمَرَ، وَلَسْنَا

<<  <   >  >>