للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالَ وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ جَاءَ الْجَيْشُ أَجْمَعُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا جَاءَ بَعْضُهُمْ إِنْ أَطْلَقْتَ الْمَجِيءَ عَلَى جَمِيعِهِمْ لَمَا كَانَ لِقَوْلِكَ أَجْمَعُ مَعْنًى، فَوُقُوعُ التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى شِيَاعِ الْمَجَازِ فِيهَا وَاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ أَفْرَدُوا لِذَلِكَ بَابًا لِعِنَايَتِهِمْ بِهِ، وَكَوْنِهِ مِمَّا لَا يُضَاعُ وَلَا يُهْمَلُ مِثْلُهُ، كَمَا أَفْرَدُوا لِكُلِّ مَعْنًى أَهَمَّهُمْ بَابًا كَالصِّفَةِ وَالْعَطْفِ وَالْإِضَافَةِ وَالنِّدَاءِ وَالنُّدْبَةِ وَالْقَسَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَكَذَلِكَ أَيْضًا حَذْفُ الْمُضَافِ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَقَدْ كَثُرَ حَتَّى إِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ بَلْ ثَلَاثُمِائَةِ مَوْضِعٍ، وَفِي الشَّعْرِ مِنْهُ مَا لَا أُحْصِيهِ، قَالَ: وَهَذَا يَدْفَعُ دَفْعَ أَبِي الْحَسَنِ الْقِيَاسَ عَنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَبُو الْحَسَنِ كَثْرَةَ الْمَجَازِ عَلَيْهِ وَسِعَةَ اسْتِعْمَالِهِ وَانْتِشَارَ مَوَاقِعِهِ، كَقَامَ أَخُوكَ، وَجَاءَ الْجَيْشُ، وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَهُوَ عَلَى غَايَةِ الِانْقِيَادِ وَالِاطِّرَادِ فَكَذَلِكَ حَذْفُ الْمُضَافِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَجِيءُ مِنْ هَذَا أَنْ تَقُولَ ضَرَبْتُ زَيْدًا وَإِنَّمَا ضَرَبْتُ غُلَامَهُ وَوَلَدَهُ، قِيلَ: هَذَا الَّذِي شَنَّعْتُ بِهِ بِعَيْنِهِ جَائِزٌ، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: إِنَّمَا ضَرَبْتُ زَيْدًا لِضَرْبِكَ لِغُلَامِهِ، وَأَهَنْتُهُ بِإِهَانَتِكَ وَلَدَهُ، وَهَذَا بَابُ إِنَّمَا يُصْلِحُهُ وَيُفْسِدُهُ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، فَإِنْ فُهِمَ عَنْكَ فِي قَوْلِكَ ضَرَبْتُ زَيْدًا أَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ ضَرَبْتُ غُلَامَهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ عَنْكَ لَمْ يَجُزْ، كَمَا أَنَّكَ إِنْ فُهِمَ بِقَوْلِكَ أَكَلْتُ الطَّعَامَ أَكَلْتُ بَعْضَهُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْبَدَلِ.

وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ عَنْكَ وَأَرَدْتَ إِفْهَامَ الْمُخَاطَبِ إِيَّاهُ لَمْ تَجِدْ بُدًّا مِنَ الْبَيَانِ وَأَنْ تَقُولَ بَعْضَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاعِرَ لَمَّا فَهِمَ عَنْهُ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ:

صَبَّحْنَ مِنْ كَاظِمَةِ الْحِصْنِ الْخَرِبِ ... يَحْمِلْنَ عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

وَإِنَّمَا أَرَادَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الثِّقَةِ يَفْهَمُ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْبَيَانِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ:

عَلِيمٌ بِمَا أَعْيَا النَّطَاسِيَّ حِذْيَمًا

إِنَّمَا أَرَادَ ابْنَ حِذْيَمٍ.

<<  <   >  >>