للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ضَارَّةً وَنَافِعَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَلَالُ طَيِّبًا فِي نَفْسِهِ، وَالْحَرَامُ خَبِيثًا فِي نَفْسِهِ، فَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا جَارٍ مَجْرَى وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ طَيِّبًا أَوْ خَبِيثًا، وَدَلَالَةُ تَحْرِيمِ الْعَيْنِ وَتَحْلِيلِهَا عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ لَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ، فَالْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: اصْعَدِ السَّطْحَ، قَدْ دَلَّهُ بِالِالْتِزَامِ عَلَى الصُّعُودِ فِي السُّلَّمِ، وَلَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا، وَهُوَ بِدُونِ ذِكْرِهِ مَجَازًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ لَهُ لَازِمٌ يُذْكَرُ مَعَهُ لَازِمُهُ مَجَازًا، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ (تَعَالَ) فَلَهُ لَازِمٌ وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَاتِ، وَإِذَا قَالَ (كُلْ) فَلَهُ لَازِمٌ وَهُوَ تَنَاوُلُ الْمَأْكُولِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ خِطَابٍ فِي الدُّنْيَا لَهُ لَازِمٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، فَافْتَحُوا بَابَ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقُولُوا: إِنَّ الْكَلَامَ بِدُونِ ذِكْرِهِ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ادَّعَيْتُمْ إِضْمَارَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اصْعَدِ السَّطْحَ وَبَيْنَ اطْبُخِ اللَّحْمَ وَاخْبِزِ الْعَجِينَ وَابْنِ الْحَائِطَ، فَهَذَا لَهُ لَوَازِمُ وَهَذَا لَهُ لَوَازِمُ، وَالْمُتَكَلِّمُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللُّزُومِ، بَلْ ذِكْرُهَا عِيٌّ وَتَطْوِيلٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] فَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ.

فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَسْرَعَ مَا هَدَمْتَ جَمِيعَ مَا بَنَيْتَهُ، وَنَقَضْتَ كُلَّ مَا أَصَّلْتَهُ، فَإِنَّكَ قَدَّمْتَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي جَمِيعَ أَفْرَادِ الْمَصْدَرِ، وَهَذَا مُحَالٌ، فَالْأَفْعَالُ عَامَّتُهَا مَجَازٌ، وَقَدَّمْتَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَجَازٌ، وَعِلْمُ اللَّهِ مَجَازٌ، فَمَا بَالُ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] وَحْدَهُ حَقِيقَةٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَعِلْمُ اللَّهِ عِنْدَكَ مَجَازًا وَهُوَ أَظْهَرُ لِلْأُمَمِ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ، وَ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] حَقِيقَةٌ، وَفِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ وَالْخَفَاءَ مَا لَا يَخْفَى، وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ أَنَّ الْجَمِيعَ حَقِيقَةٌ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ مَجَازٌ فَهُوَ ضَالٌّ، وَلَكِنِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ " كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى " مَجَازٌ، يَقُولُونَ: إِنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَعِلْمَ اللَّهِ حَقِيقَةٌ، وَهُمُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْكِلَابِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَهُمْ قَوْلَانِ: أَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَجَازٌ، وَبَعْضُهُمْ

<<  <   >  >>