وَلَمَّا خَلَقَ سُبْحَانَهُ الرَّحِمَ وَاشْتَقَّ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِهِ، فَأَرَادَ إِنْزَالَهَا إِلَى الْأَرْضِ تَعَلَّقَتْ بِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنِ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ وَأَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَرْشِ لَهَا حَنْحَنَةٌ كَحَنْحَنَةِ الْمِغْزَلِ، وَكَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْعَرْشِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهَا، وَإِنْزَالُهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً مِنْهُ بِخَلْقِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ مَا تَلْقَاهُ مِنْ نُزُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ وَمُفَارَقَتِهَا لِمَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ رَحِمَهَا بِتَعَلُّقِهَا بِالْعَرْشِ وَاتِّصَالِهَا بِهِ، وَقَوْلُهُ: " «أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ» ".
وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَرِعَايَةَ حُرْمَةِ الرَّحِمِ، قَدْ عَمَّرَ دُنْيَاهُ، وَاتَّسَعَتْ لَهُ مَعِيشَتُهُ، وَبُورِكَ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَإِنْ وَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ مَعَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ تَمَّ لَهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَإِنْ قَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحِمِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَمَحَقَ بَرَكَةَ رَحْمَتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَثَرِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» "، فَالْبَغْيُ مُعَامَلَةُ الْخَلْقِ بِضِدِّ الرَّحْمَةِ، وَكَذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَتَوَاصَلُونَ وَهُمْ فَجَرَةٌ فَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَتَقَاطَعُونَ فَتَقِلُّ أَمْوَالُهُمْ وَيَقِلُّ عَدَدُهُمْ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ نَصِيبِ هَؤُلَاءِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقِلَّةِ نَصِيبُ هَؤُلَاءِ مِنْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ» " وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ خَيْرًا نَشَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرًا مِنْ آثَارِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَعَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَأَحْيَا بِهِ الْعِبَادَ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا أَمْسَكَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْأَثَرَ، فَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ بِحَسَبِ مَا أَمْسَكَ عَنْهُمْ مِنْ آثَارِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ، وَلِهَذَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخَرِّبَ هَذِهِ الدَّارَ وَيُقِيمَ الْقِيَامَةَ أَمْسَكَ عَنْ أَهْلِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute