أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُغَتِهِمْ وَأَنْزَلَ بِهَا كَلَامَهُ نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَالْمُطَلَّقُ مَا لَمْ يُوصَلْ مَعْنَاهُ بِحَرْفٍ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: ١٤] وَهَذَا مَعْنَاهُ كَمُلَ وَتَمَّ، يُقَالُ: اسْتَوَى النَّبَاتُ وَاسْتَوَى الطَّعَامُ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَثَلَاثَةُ أَضْرَابٍ: أَحَدُهَا: مُقَيَّدٌ بِإِلَى كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] وَاسْتَوَى فُلَانٌ إِلَى السَّطْحِ وَإِلَى الْغُرْفَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمُعَدَّى بِإِلَى فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ: فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] وَالثَّانِي فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: ١١] وَهَذَا بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَنَذْكُرُ أَلْفَاظَهُمْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالثَّانِي: مُقَيَّدٌ بِعَلَى كَقَوْلِهِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: ٤٤] وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: ٢٩] وَهَذَا أَيْضًا مَعْنَاهُ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ وَالِاعْتِدَالُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، الثَّالِثُ: الْمُقِرُّونَ بِوَاوِ (مَعَ) الَّتِي تُعَدِّي الْفِعْلَ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، نَحْوَ: اسْتَوَى الْمَاءُ وَالْخَشَبَةَ بِمَعْنَى سَاوَاهَا، وَهَذِهِ مَعَانِي الِاسْتِوَاءِ الْمَعْقُولَةِ فِي كَلَامِهِمْ، لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى اسْتَوْلَى الْبَتَّةَ، وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَأَخِّرُو النُّحَاةِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهُ نَقْلًا، فَإِنَّهُ مُجَاهَرَةٌ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا قَالُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَحَمْلًا مِنْهُمْ لِلَفْظَةِ اسْتَوَى عَلَى اسْتَوْلَى، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ
وَهَذَا الْبَيْتُ لَيْسَ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؟ فَقَالَ: لَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ مَنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute