للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَتَى بِلَفْظَةِ (ثُمَّ) الَّتِي حَقِيقَتُهَا التَّرْتِيبُ وَالْمُهْلَةُ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ ذَلِكَ إِلَى مَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَإِنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» "، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: ٧] فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ وَلَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَرْشِ إِلَى أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.

فَإِنْ قِيلَ: نَحْمِلُ " ثُمَّ " عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ وَنُجَرِّدُهَا عَلَى مَعْنَى التَّرْتِيبِ.

قِيلَ: هَذَا بِخِلَافِ الْأَصْلِ وَالْحَقِيقَةِ، فَأَخْرَجْتُمْ ثُمَّ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَالِاسْتِوَاءَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَفْظَ الرَّحْمَنِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَرَكَّبْتُمْ مَجَازَاتٍ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَأْتِي " ثُمَّ " لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبِرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا سَابِقًا عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الْوُجُودِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي الْإِخْبَارِ.

قِيلَ: هَذَا لَا يَثْبُتْ أَوَّلًا وَلَا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ، وَلَمْ يَأْتِ فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ، وَلَوْ قُدِّرَ وُرُودُهُ فَهُوَ نَادِرٌ لَا يَكُونُ قِيَاسًا مُطَّرِدًا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ لِأَجْلِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: ١١] وَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: ٤٦] وَشَهَادَتُهُ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ.

قِيلَ: لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا بَعْدَ (ثُمَّ) عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: ١١] فَهُوَ خَلْقُ أَصْلِ الْبَشَرِ وَأَبِيهِمْ، وَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ خَلْقًا لَهُمْ وَتَصْوِيرًا إِذْ هُوَ أَصْلُهُمْ وَهُمْ فَرْعُهُ، وَبِهَذَا فَسَّرَهَا السَّلَفُ، قَالُوا خَلَقْنَا أَبَاكُمْ، وَخَلْقُ أَبِي الْبَشَرِ خَلْقٌ لَهُمْ.

<<  <   >  >>