للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَنْشَدَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ، فَقَدِ اسْتَوَى عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْمَمَالِكِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمُلْكِ، فَمَنْ أَنْكَرَ عَرْشَهُ وَأَنْكَرَ اسْتِوَاءَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْكَرَ تَدْبِيرَهُ، فَقَدْ قَدَحَ فِي مُلْكِهِ، فَهَذِهِ الْقَرَائِنُ تُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَوَى عَلَى ابْنِ آدَمَ وَعَلَى الْجَبَلِ وَعَلَى الشَّمْسِ وَعَلَى الْقَمَرِ وَعَلَى الْبَحْرِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ، وَهَذَا لَا يُطْلِقُهُ مُسْلِمٌ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا جَائِزٌ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَجَلُّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَرْفَعُهَا وَأَوْسَعُهَا، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا دُونَهُ، قِيلَ: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْخَاصِّ مُنَافِيًا لِذِكْرِ الْعَامِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ لَمَّا كَانَتْ عَامَّةً لِلْأَشْيَاءِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ الْعَرْشِ بِذِكْرِهِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: ١٢٩] مَانِعًا مِنْ تَعْمِيمِ إِضَافَتِهَا كَقَوْلِهِ: {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ١٦٤] فَلَوْ كَانَ الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ لَكَانَ لَمْ يَمْنَعْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْعَرْشِ إِضَافَتَهُ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ إِذْ فُسِّرَ الِاسْتِوَاءُ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ عَادَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ عِبَادَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ غَلَبَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَهَرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ، أَفَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى وَقَارٍ لِلَّهِ بِكَلَامِهِ أَنْ يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَرَادَهُ بِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥] أَيِ: اعْلَمُوا يَا عِبَادِي أَنِّي بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ غَلَبْتُ عَرْشِي وَقَهَرْتُهُ وَاسْتَوْلَيْتُ عَلَيْهِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِهِ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» " وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ:

وَإِنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ

<<  <   >  >>