للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عِلْمِ الْأُمَّةِ وَنِسْبَتُهَا إِلَى أَعْظَمِ الْجَهْلِ لِسُكُوتِهِمْ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ وَتَكَلُّمِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحِلْهُ الْعَقْلُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْعَقْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ إِنَّمَا هُوَ مُتَلَّقًى عَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ، وَمِمَّنْ حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالطَّلَمَنْكِيُّ عَنْهُمْ خَاصَّةً، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِمَّنْ يُحْكَى أَقْوَالُهُمْ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي تَفْسِيِرِ الْجُبَائِيِّ: كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ نَزَلَ بِلُغَةِ أَهْلِ جُبَاءَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِآرَائِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى تَفْسِيرِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ يَكُونُ مَعَ مُزَايَلَةِ الْمُسْتَوِي لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَمُفَارَقَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: اسْتَوْلَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَاسْتَوْلَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَاسْتَوْلَى الْجَوَادُ عَلَى الْأَمَدِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ ... سَبْقُ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ

فَجَعَلَهُ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ وَقَطْعِ مَسَافَتِهِ، وَالِاسْتِوَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ مُجَاوَرَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتَوِي عَلَيْهِ كَمَا اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: ١٣] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: ٢٨] وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ وَالسَّطْحِ إِذْ نَزَلَ عَنْهَا وَفَارَقَهَا، كَمَا يُقَالُ: اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، هَذَا عَكْسُ اللُّغَةِ وَقَلْبُ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا قَطْعِيٌّ بِحَمْدِ اللَّهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ نَقْلَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَحَقِيقَتِهِ كَنَقْلِ لَفْظِهِ بَلْ أَبْلَغُ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، مَنْ يَحْفَظُ الْقِرَانَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَحْفَظُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْإِرَادَةِ وَسَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَعْلُومٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّتُهُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُخَاطَبُوا بِالْكَيْفِيَّةِ وَلَمْ يَرِدْ مِنْهُمُ الْعِلْمُ بِهَا، فَإِخْرَاجُ الِاسْتِوَاءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ الْمَعْلُومَةِ كَإِنْكَارِ وُرُودِ لَفْظِهِ بَلْ أَبْلَغُ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، يُوَضِّحُهُ:

<<  <   >  >>