وَجَلَّ فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] فَقَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَ ذَاتِهِ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " وَلِقَوْلِهِ: «رَأَيْتُ نُورًا» .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَظَهَرَ لَهُ أَمْرٌ مَا مِنْ نُورِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ صَارَ الْجَبَلُ دَكًّا، فَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: ١٤٣] أَشَارَ أَنَسٌ بِطَرَفِ إِصْبَعِهِ عَلَى طَرَفِ خِنْصَرِهِ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ ثَابِتٌ فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: مَا تُرِيدُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ أَنْتَ: مَا تُرِيدُ بِهَذَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي أَصَارَ الْجَبَلَ إِلَى هَذَا الْحَالِ ظُهُورُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ لَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، بَلْ تَجَلَّى رَبُّهُ لَهُ سُبْحَانَهُ» .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ: " «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» " الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُغَايِرٌ لِكَوْنِهِ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِصْلَاحَهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْأَنْوَارِ وَهِدَايَتَهُ لِمَنْ فِيهِمَا هِيَ رُبُوبِيَّتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْرٌ وَرَاءَ رُبُوبِيَّتِهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ شَامِلَةٍ عَامَّةٍ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ: رُبُوبِيَّتُهَا وَقَيُّومِيَّتُهَا وَنُورُهُمَا، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا لَهُمَا وَقَيُّومًا لَهُمَا وَنُورًا لَهُمَا أَوْصَافٌ لَهُ، فَآثَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ وَنُورِهِ قَائِمَةٌ بِهِمَا، وَصِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ صِفَةَ الرَّحْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ قَائِمَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّحْمَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَالَمِ، وَالْإِحْسَانُ وَالْخَيْرُ، وَالنِّعْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ آثَارُ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، وَهَكَذَا عِلْمُهُ الْقَائِمُ بِهِ هُوَ صِفَتُهُ، وَأَمَّا عُلُومُ عِبَادِهِ فَمِنْ آثَارِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ، فَالْتَبَسَ هَذَا الْمَوْضِعُ عَلَى مُنْكِرِي نُورِهِ سُبْحَانَهُ، وَلُبِّسُوا مِنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: ٣٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute