وَمَغْفِرَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الدُّنُوِّ وَالْإِتْيَانِ الْمُلَاصَقَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، بَلْ يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ بِانْتِقَامِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ إِذْ لَا يَكُونُ الرَّبُّ إِلَّا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَفَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ نُزُولِهِ وَدُنُوِّهِ، وَهُبُوطِهِ وَمَجِيئِهِ، وَإِتْيَانِهِ وَعُلُوِّهِ، لِإِحَاطَتِهِ وَسَعَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَبْضَتِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ الظَّاهِرَ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، فَهُوَ الْبَاطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، فَظُهُورُهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ أَعْلَمُ الْخَلْقِ لَا يُنَاقِضُ بُطُونَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ أَيْضًا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّنُوَّ وَالْقُرْبَ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» " فَهَذَا قُرْبُ السَّاجِدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " «إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» "، فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ وَالْأَوَّلُ قُرْبُهُ مِنْ عَابِدِيهِ، وَلَمْ يُنَاقِضْ ذَلِكَ كَوْنُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ.
وَإِنْ عَسُرَ عَلَى فَهْمِكَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ إِحَاطَةِ الرَّبِّ وَسَعَتِهِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ السَّبْعَ بِيَدِهِ وَالْأَرْضِينَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ كَيْفَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ الدُّنُوُّ مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّنُوَّ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَهُوَ يُوجِبُ لَكَ فَهْمَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ هُوَ تَفْسِيرُ الْحَقِّ الْمُطَابِقُ لِكَوْنِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَكَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّ النُّزُولَ وَالْمَجِيءَ وَالْإِتْيَانَ، وَالِاسْتِوَاءَ، وَالصُّعُودَ وَالِارْتِفَاعَ كُلُّهَا أَنْوَاعُ أَفْعَالٍ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَفْعَالُهُ كَصِفَاتِهِ قَائِمَةً بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَعَّالًا وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، فَنُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَارْتِفَاعُهُ وَصُعُودُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، كُلُّهَا أَفْعَالٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، الَّتِي إِنْ كَانَتْ مَجَازًا فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَجَازٌ وَلَا فِعْلَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادَاتِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ مَنْ عَطَّلَ أَفْعَالَهُ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا حَقِيقَةً فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ: لَازِمَةٌ وَمُتَعَدِّيَةٌ، كَمَا دَلَّتِ النُّصُوصُ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ عَلَى النَّوْعَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute