مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: ٤] وَنَحْوَ قَوْلِهِ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: ٥٢] .
الثَّالِثُ: إِنَّ قُرْبَ الرَّبِّ تَعَالَى إِنَّمَا وَرَدَ خَاصًّا وَلَا عَامًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ: قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ بِالْإِجَابَةِ وَمِنْ مُطِيعِهِ بِالْإِثَابَةِ، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ كَمَا جَاءَتِ الْمَعِيَّةُ خَاصَّةً وَعَامَّةً، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَأَنَّهُ قَرِيبٌ فِي الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ، وَإِنَّمَا جَاءَ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: ١٨٦] فَهَذَا قَرَّبَهُ مِنْ دَاعِيهِ وَسَائِلِهِ بِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْهَا مَذْكُورًا، إِمَّا لِأَنَّ فَعِيلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَعُولٍ اشْتِرَاكٌ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا الْوَزْنُ وَالْعَدَدُ وَالزِّيَادَةُ وَالْمُبَالَغَةُ، وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا يَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ فَاعِلٍ اسْتَوَى مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ فِي عَدَمِ إِلْحَاقِ التَّاءِ، كَامْرَأَةٍ نَئُومٍ وَضَحُوكٍ فَحَمَلُوا فَعِيلًا عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِعَقْدِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا لِأَنَّ قَرِيبًا مَعْدُولٌ عَنْ مَفْعُولٍ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهَا قُرِّبَتْ مِنْهُمْ وَأُدْنِيَتْ، وَهُمْ يُرَاعُونَ اللَّفْظَ تَارَةً وَالْمَعْنَى أُخْرَى، وَأَمَّا ذَهَابُهُمْ بِالرَّحْمَةِ إِلَى الْإِحْسَانِ وَاللُّطْفِ وَالْبِرِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لُغَتِهِمْ حَتَّى يَكْثُرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ جَاءَتْ فُلَانًا كِتَابِي تَذْهَبُونَ بِهِ إِلَى الصَّحِيفَةِ، وَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَكُونُ قَرِيبٌ خَبَرًا عَنْهُ تَقْدِيرُهُ مَكَانُ رَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ تَنَاوُلُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ قَرِيبٌ، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ قَرِيبٌ صِفَةً لَهُ تَقْدِيرُهُ أَمْرٌ أَوْ شَيْءٌ قَرِيبٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ ... مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يَا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ قَدْ ... ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ
أَيْ شَخْصًا ذَا غُرْبَةٍ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ حَائِضًا وَطَالِقًا وَطَامِثًا وَنَحْوَهَا، وَإِمَّا عَلَى اكْتِسَابِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، نَحْوُ ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَتَوَاضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ وَبَابُهُ، إِمَّا مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ عَنِ الْآخَرِ، وَالدَّلَالَةِ بِالْمَذْكُورِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَالْأَصْلُ إِنَّ اللَّهَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَرَحْمَتَهُ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute