الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ الَّذِي أُحِيلَ بَيَانُهُ عَلَى خِطَابٍ آخَرَ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ تَأْوِيلُهُ إِلَّا بِالْخِطَابِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مَعَهُ، وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ مَجَالٌ وَاسِعٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْحُرُوفِ الْمُفْتَتَحِ بِهَا السُّوَرُ، بَلْ إِذَا تَأَمَّلَ مَنْ بَصَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُتَضَمِّنَةً لِدَفْعِ مَا يُوهِمُهُ الْكَلَامُ مِنْ خِلَافِ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ لَطِيفٌ جِدًّا فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ نُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] رَفَعَ سُبْحَانَهُ تَوَهُّمَ الْمَجَازِ فِي تَكْلِيمِهِ لِكَلِيمِهِ بِالْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَرَبِيُّ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِثْبَاتُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَاتَ مَوْتًا وَنَزَلَ نُزُولًا، وَنَظَائِرِهِ.
وَنَظِيرُهُ التَّأْكِيدُ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَ " كُلِّ " وَأَجْمَعَ، وَالتَّأْكِيدُ بِقَوْلِهِ: حَقًّا وَنَظَائِرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: ١] فَلَا يَشُكُّ صَحِيحُ الْفَهْمِ أَلْبَتَّةَ فِي هَذَا الْخِطَابِ أَنَّهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِوَجْهٍ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ السَّمْعِ لِلرَّبِّ تَعَالَى حَقِيقَةً وَأَنَّهُ بِنَفْسِهِ يَسْمَعُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: ٤٢] فَرُفِعَ تَوَهُّمُ السَّامِعِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ عَمَلُ جَمِيعِ الصَّالِحَاتِ الْمَقْدُورَةِ وَالتَّجَوُّزُ عَنْهَا يُجَوِّزُهُ أَصْحَابُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، رُفِعَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِجُمْلَةٍ اعْتُرِضَ بِهَا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ تُزِيلُ الْإِشْكَالَ.
وَنَظِيرُهُ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: ١٥٢] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ٨٤] فَلَمَّا أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِغَيْرِهِ، بَلْ وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ٨٤] لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ سَامِعٌ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِهِمْ فَإِنَّهُ يُهْمِلُهُمْ وَيَتْرُكُهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute