للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَكُونُ مُنَاظِرًا مَعَ غَيْرِهِ فَأَمَرَهُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنْ يَقُومُوا لِلَّهِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَيَتَنَاظَرَانِ وَيَتَسَاءَلَانِ بَيْنَهُمَا وَاحِدًا وَاحِدًا، يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِ هَذَا الدَّاعِي وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَسْتَدْعِي أَدِلَّةَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَيَعْرِضُ مَا جَاءَ بِهِ عَلَيْهَا لِيَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَهَذَا هُوَ الْحِجَاجُ الْجَلِيلُ وَالْإِنْصَافُ الْبَيِّنُ، وَالنُّصْحُ التَّامُّ.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي تَثْبِيتِ أَمْرِ الْبَعْثِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: ٧٨ - ٧٩] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَلَوْ رَامَ أَفْصَحُ الْبَشَرِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْبَيَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَوْ مِثْلِهَا، فِي أَلْفَاظٍ تُشَابِهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَوَصَفَ حِينَئِذٍ الدِّلَالَةَ وَصِحَّةَ الْبُرْهَانِ لَأَلْفَى نَفْسَهُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِسُؤَالٍ أَوْرَدَهُ الْمُلْحِدُ اقْتَضَى جَوَابًا، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: ٧٨] مَا وَفَى بِالْجَوَابِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ، لَوْلَا مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَأْكِيدِ حُجَّتِهِ وَزِيَادَةِ تَقْرِيرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ الْمُلْحِدَ لَوْ تَبَيَّنَ خَلْقَ نَفْسِهِ وَبَدْءَ كَوْنِهِ لَكَانَتْ فِكْرَتُهُ فِيهِ كَافِيَةً، ثُمَّ أَوْضَحَ سُبْحَانَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: ٧٨] وَصَرَّحَ جَوَابًا لَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: ٧٩] فَاحْتَجَّ بِالْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَبِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الثَّانِيَةِ عَجَزَ عَنِ الْأُولَى، بَلْ كَانَ أَعْجَزَ وَأَعْجَزَ.

وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْخَالِقِ عَلَى مَخْلُوقِهِ، وَعِلْمَهُ بِتَفَاصِيلِ خَلْقِهِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: ٧٩] فَهُوَ عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَتَفَاصِيلِهِ وَمَوَارِدِهِ وَصُورَتِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ الثَّانِي، فَإِذَا كَانَ تَامَّ الْعِلْمِ كَامِلَ الْقُدْرَةِ، كَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْيِيَ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟

أَكَّدَ الْأَمْرَ بِحُجَّةٍ تَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مُلْحِدٍ آخَرَ يَقُولُ: الْعِظَامُ إِذَا صَارَتْ رَمِيمًا عَادَتْ طَبِيعَتُهَا بَارِدَةً يَابِسَةً، وَالْحَيَاةُ فِي الْأَبْدَانِ تَكُونُ مَادَّتُهَا طَبِيعَةٌ حَارَّةٌ، فَقَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: ٨٠] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْعُنْصُرِ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الْمُمْتَلِئِ بِالرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ، فَالَّذِي يُخْرِجُ الشَّيْءَ مِنْ ضِدِّهِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا أَنْكَرَهُ الْمُلْحِدُ مِنْ إِحْيَاءِ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ.

<<  <   >  >>