ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ضَعْفَ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ أَنْقَصُ الْجِنْسَيْنِ، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِهِ إِلَى الْحِلْيَةِ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْجِنْسَيْنِ بَيَانًا فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: ١٨] فَأَشَارَ بِنَشْأَتِهِنَّ فِي الْحِلْيَةِ إِلَى أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتٌ فَيَحْتَجْنَ إِلَى الْحِلْيَةِ يَكْمُلْنَ بِهَا، وَأَنَّهُنَّ عَيِيَّاتٌ فَلَا يُبِنَّ حُجَّتَهُنَّ وَقْتَ الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: ١٨] تَعْرِيضًا بِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْحِلْيَةُ مِنَ التَّزَيُّنِ لِمَنْ يَفْتَرِشُهُنَّ وَيَطَأُهُنَّ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُنَّ لَا يَثْبُتْنَ فِي الْحَرْبِ، فَذَكَرَ الْحِلْيَةَ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ.
وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: ٨٠ - ٨٢] فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَخْرُجْ فِي ظَاهِرِهِ مَخْرَجَ كَلَامِ الْبَشَرِ الَّذِي يَتَكَلَّفُهُ أَهْلُ النَّظَرِ وَالْجِدَالِ وَالْمُقَايَسَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، بَلْ خَرَجَ فِي صُورَةِ كَلَامٍ خَبَرِيٍّ يَشْتَمِلُ عَلَى مَبَادِئِ الْحِجَاجِ، وَيُشِيرُ إِلَى مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ وَنَتَائِجِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَفْصَحِهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِقَوْمِهِ مُتَعَجِّبًا مِمَّا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: ٨٠] وَتَطْمَعُونَ أَنْ تَسْتَزِلُّونِي عَنْ تَوْحِيدِهِ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي، وَتَأَكَّدَتْ بَصِيرَتِي وَاسْتَحْكَمَتْ مَعْرِفَتِي بِتَوْحِيدِهِ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي رَزَقَنِيهَا، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فِي اعْتِقَادِهِ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ عَنْ بَصِيرَةٍ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا رَيْبٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِزْلَالِهِ عَنْهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُحَاجَّةَ بَعْدَ وُضُوحِ الشَّيْءِ وَظُهُورِهِ نَوْعٌ مِنَ الْعَبَثِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَاجَّةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَدْ رَآهَا مَنْ يُحَاجُّهُ بِعَيْنِهِ، فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ حِجَاجُكُمْ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَطْلُعْ، ثُمَّ قَالَ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: ٨٠] فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ أَنْ يَنَالَهُ مِنْهَا مَضَرَّةٌ كَمَا قَالَهُ قَوْمُ هُودٍ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: ٥٤] فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ أَصَابَنِي مَكْرُوهٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute