للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمكان، وتجاوزت مرحلة الطفولة والمراهقة الفكرية إلى النضج الفكري الذي وقف الإنسان على أعتابه، وصارت تبرز من خلال العقل البشري دون أن تنحصر في نبي أو رسول. إن آيات الآفاق والأنفس هي هذه المعجزة المستمرة التي لا تتوقف لحظة واحدة، عن لفت العقول والأبصار، والأسماع إلى العلاقة المتبادلة المستمرة، وإلى التطابق الكامل بين آيات الكتاب التي جاء بها الوحي، وآيات الآفاق، والأنفس التي يكتشفها العلم في كل يوم. والقرآن لا تخلو صفحة من صفحاته من الحث على تتبع مظاهر هذه المعجزة العلمية في السموات، وفي الأرض، وفي النفس الإنسانية، وفي مفردات الخلق كلها.

والقرآن لا يوجه العقل إلى تأمل غيب لا يقع تحت أسماعنا، وأبصارنا وعقولنا، ولكن الغيب الذي يوجه الإسلام إليه هو كائن موجود لم يأتنا تأويله بعد، وحين يأتي تأويله -أي بروزه إلى عالم الحس- فسوف نراه ونعايشه، وما الكهرباء والجاذبية، والطاقة الذرية والطاقة الهيدروجينية وتطبيقات البث التلفزيوني والاتصالات عبر القارات، والتلكس والكمبيوتر، وأمثالها إلا محسوسات كانت في عالم الغيب، وسوف يتوالى انتقال المغيبات إلى عالم الحس حتى يرى الإنسان كل ما وعد به الرسول، وجاءت به الرسالة:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: ٥٣] .

لقد شرعت التربية الإسلامية في عصور الازدهار في تنمية القدرات التسخيرية اللازمة للنظر في آيات الكتاب أولًا، ثم النظر في آيات الآفاق والأنفس ثانيا. وكان من ثمار هذا الشروع أن ارتقى المفكرون إلى المستوى الأعلى من مستوى القدرات العقلية -مستوى تبني المواقف العلمية من الكون المحيط. وبسبب هذه المواقف ارتقوا إلى رتبة الاجتهاد المطلق، وأطلقوا العنان لعقولهم للنظر في آيات الكتاب والسنة، فسبروا أغوارها في ضوء الواقع الذي يعيشونه.

وكان من ثمار إخراج تلك الثروة الفقهية

<<  <   >  >>