للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحاضر البراهين الساطعة لذلك. ففي الماضي مهدت الفتوحات اليونانية والرومانية، ومن قبلها إلى قيام حضارات هذه الأمم، كذلك مهد الفتح الإسلامي -الذي وحد رقعة واسعة امتدت من شرق آسيا حتى غرب أفريقا وجنوب أوربا- إلى قيام الحضارة الإسلامية وازدهارها. وحين عملت معاول العصبيات القبلية، والعرقية، والطائفية عملها، وجزأت العالم الإسلامي إلى دول متناحرة وأقاليم مراقبة الأبواب والحدود توقف المد الحضاري، ثم انحسر ثم جمد ثم انهار.

وفي الحاضر يقدم تاريخ الأقطار الإسلامية الحديثة براهين مماثلة كذلك. فهذه الأقطار التي حرصت -وما زالت تحرص- على تكريس التجزئة، واختراع الكثير من قوانين السفر، والإقامة والعمل التي توفر لهذه التجزئة الدوام والفاعلية، وقعت جميعها تحت غوائل الضعف السياسي، والديون الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي رغم ضخامة مصادرها البشرية وثرواتها الطبيعية، وظلت حبيسة التخلف رغم محاولاتها المتكررة للتقدم، والتي مر عليها أكثر من قرنين حتى الآن.

كما أن النظر في حاضر الأمم الحديثة الأخرى يقدم الشواهد البينة للعلاقة المتلازمة بين اتساع الوحدات الجغرافية، وقيام الحضارات وازدهارها. فالأقطار التي توحدت أو اتحدت -كما هو الحال في أمريكا وأوربا، والصين واليابان- وفرت "الإيواء" لشعوبها بمختلف مظاهره وأشكاله. فقد وفرت "الإيواء الفكري والعلمي" لعلمائها وطلابها، ووفرت "الإيواء الاقتصادي" لرساميلها وصناعاتها وتجاراتها وثرواتها، ووفرت "الإيواء المعيشي والأمني" لشعوبها. بل إن توفير هذا الإيواء كان عاملا قويا في جذب العلماء، والمبدعين في جميع الكفاءات والمؤهلات من الأقطار الأخرى. وكان من ثمار ذلك كله أن يسرت للحضارة فيها أن تنشأ وتزدهر، وأن تنتشر في الخارج، وصار إنسان هذه الأقطار يتمتع بـ"الإيواء" المحترم والأمن المعيشي، والاعتقادي وحرية السفر، وكرامة الإقامة والعمل في بقاع الأرض كلها.

<<  <   >  >>