للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مكة إلى بلخ [١] ، فلما رآه ابن جريج عازما على ذلك، قال له: أخّر يوما حتى أجمع بينك وبين أشراف مكة، فأجاب إلى ذلك، ودعا أشراف مكة [٢] ، فلما أخذوا مجالسهم، ومدت الأطعمة، أقام ابن جريج على رأس عمر غلاما بديعا، قد استحكم الأدب، وقال له: إذا رأيت من هذا الخراساني عيبا فاعلمه.

فقدم الوضوء إلى عمر، فلما غسل يديه مس عارضه بيده اليمنى، فقال له الغلام:

أخطأت يا خراساني من مسّك عارضك بعد غسل يدك، وأمره باعادة الغسل. فلما وضعت المائدة وقدّمت القصاع، بدأ عمر يفتّ الخبز في المرقة، فقال له الغلام، أخطأت يا خراساني، قال: فيم؟ قال: في هشمك الثريد/ قبل ذوقك له، فانك لا تدري ما طعمه، فلعلك تعافه، فتكون قد أفسدته، وإذا بدأت بذوقه ووافقك طعمه، هشمت الثريد على علم منك بموافقته إياك، قال: صدقت، ثم ذوّق فيه فلقة خبز، يتحرى بذلك، فقال له الغلام:

أخطأت يا خراساني، قال: فيم؟ قال: من مخالفة حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين قال: (ابدأوا بالملح واختموا بالملح ثلاث لقم) [٣] ، لم يقل ابدأوا بالذوق، قال: صدقت.

فبدأ بالملح، ثم عاد إلى الثريد، فجعل يأكل ويمسح أصابعه بالمنديل في كل لقمة، فقال له الغلام: أخطأت يا خراساني، قال: فيم؟ قال: مسحك الأصابع في كل لقمة بالمنديل، ولعق الأصابع مما ندب النبي صلّى الله عليه وسلم، إليه قال: صدقت، فلما قدم الإرز مزق عمر رقاقة يقي بها أصابعه حرّ الإرز، فقال له الغلام: أخطأت يا خراساني، قال: فيم؟

قال: من رفعك اللقمة الحارة فتضعها في فيك حارة فتحرق، وتستحي من أصحابك أن تلفظها فتبتلعها، فتحرق معدتك، ولا تدري كيف تخلص منها، قال عمر: صدقت، فخجل وأمسك. قال له الغلام: أخطأت يا خراساني./

قال: فيم؟ قال في إمساكك عن الطعام قبل إمساك من على المائدة، أو ما سمعت قول العرب: لا تكن أول من يمسك عن الطعام، فيستحي منك من لم يستوف، فيمسك لإمساكك، ولا تكن آخر من يمسك فتنسب إلى النهم والرغابة، فجعل عمر يساعد من على المائدة إلى أن استوفوا [٤] .

فلما رفعت المائدة، وقرّب إليه الوضوء، مد عمر يده اليسرى لأخذ الحرض [٥] ، فقال


[١] بلخ: مدينة مشهورة بخراسان، افتتحها الأحنف بن قيس من قبل عبد الله بن عامر بن كريز، في أيام عثمان بن عفان. (ياقوت: بلخ) .
[٢] قوله: فأجاب إلى ذلك ودعا أشراف مكة. ساقطة من ب، ط.
[٣] الحديث بلفظ: (ابدأوا بالملح واختموا بالملح ثلاث لقم) في اتحاف السادة المتقين للزبيدي ٥/٢١٨.
[٤] في ب، ط، ش، ل: استوفي.
[٥] الحرض: الاشنان، ورماد إذا أحرق ورش عليه الماء انعقد وصار كالصابون، تنظف به الأيدي والملابس، وحجر الجير.

<<  <   >  >>