للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التعريف والتعرف من الصفا والوفا والفنا، هذا من حيث عبارة الناطق، وأما اشتقاقه من حيث الحقائق، فمن أحد أربعة أشياء، تحيي الأسرار، وتسر الأحياء:

الأول: من الصوفانة، وهي بقلة قصيرة ذات زغبة.

والثاني: من صوفة، وهي قبيلة كانت تجيز الحاج وتخدم الكعبة.

الثالث: من صوفة القفا، شعرات في قفا الإنسان./

الرابع: من الصوف الغني عن البيان.

وإذ قد أصغيتم لبياني، فسآتي بالبديع في شرح هذه المعاني، إن أخذ التصوف من الصوفانة التي هي البقلة، فلأن القوم اجتزؤوا في الجملة، فاقتصروا على ما يوجد الله تعالى بصنعه من رزقه، ومنّ به على عبّاد عباده من غير تكلف فيه من خلقه، فاكتفوا به عمّا فيه للبشر صنع، فلم يبسطهم إليهم عطاء، ولا قبضهم عنه منع، كما شاع عن المجاهدين من المهاجرين، ونبّه عليه سيد الأولين والآخرين صلّى الله عليه وسلم، وشرّف وكرّم.

وإن أخذ من الصوفة، وهي القبيلة المعروفة، فلأنّ الصوفي متزود من القربات والطاعات، محاسب نفسه على الدقائق والساعات، أحد أعلام الهدى، طاب خبره لطيب المبتدا.

وإن أخذ من صوفة القفا، فحسبكم بيانا وكفى، إن الصوفي معطوف به إلى الحق، مصروف به عن الخلق، لا يريد به بدلا، ولا يبغي عنه حولا [١] .

وإن أخذ من الصوف المعروف، فلأن الصوفي بلبسه موصوف، اختار في الدنيا لبسه، وكسر بذلّته وبذلته نفسه، نداء منه على لابس الحرير بالرعونة والبله، إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له./

هذا بيان الاشتقاق، وأما شرط الصوفي باستحقاق، فأن يتخلق بأخلاق الرسول، ويفوز من سؤل رياضاته بالشمول، ويتنكب عمّا عنه نكّب [٢] ، ويأخذ بما إليه ندب، لا يتخذ محرّمه ربيعه، ولا يجري كالعاصي الذي يزيد إعراضه عن الشريعة، فقد صفا من الكدر، ونحّي عن الفكر، ونجّي من الغير، ومن عدل عن سمته ونهجه، وعوّل على حكم نفسه وهرجه، وسعى لبطنه وفرجه، كان من التصوف خاليا، وفي التجاهل ساعيا، ومن داخله في ذلك مرية، فقد عطّل عما ذكره الحافظ في الحلية [٣] .

قال الحاكي: فلما سمعت ما قاله هذا الشيخ الجليل، أكبرته وبالغت في التبجيل،


[١] هو من قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا
الكهف ١٠٨.
[٢] في ب: عنه تنكّب.
[٣] يريد كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة ٤٣٠ هـ.

<<  <   >  >>