للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقلت: يا سيدي، لي زمان أحرص على مثلك، فما ظفرت به من قبلك، فتمّم العطا، واكشف لي الغطا، عن أشياء تعانيها متصوفة الوقت، وبيّن لي منها ما يستحق المقة من المقت [١] ، قال: سل عمّا تريد، قلت: أول بيت في القصيد، لم حلقوا الرؤوس وقصروا الثياب؟ فقال: موافقة لما في الكتاب، وهم في ذلك كالمذكرين،/ أن من كان إلى العلى من المخلصين، فليعترف أنه من المقصرين. قلت: فلم تركوا النعال ولبسوا الجماجم؟ [٢] قال: شىء إحدثته الأعاجم: [المتقارب]

وأقسم ما ذاك منهم سدى ... فأفهامهم فوق أفهامنا

ولو قلت ما سرّ ذا أنشدوا ... جماجمنا تحت أقدامنا

قلت: فلم تختّموا بالعقيق؟ قال: فيه منافع وخواص هو بها حقيق، فان خاتمه يسكن حدة الغضب، ولمنع النزيف هو سبب، ونحاتته [٣] لتآكل الأسنان، ولوجع القلب، وقروح أمعاء الإنسان، ومما ذكر عنه وقيل: إن خاتمه لم يوجد في أصبع قتيل، وما أحسن استخدام بعضهم فيه: [الكامل]

عج بالعقيق فمدمعي يحكيه

قلت: فلم رقصوا في السماع؟ قال: فيه لذة واجتماع، ولهم فيه أسرار، لا يطلع عليها الأشرار، فهو كالفخيخ [٤] ، أو كالشبكة في يد الشيخ المتصنع يصيد به القوت، والصادق يريد به الربوب، والمبادرة إلى تحريمه من الجمود والقصور، وهو رأي من لا له بالشعر شعور، ولا فهم المنظوم، ولا شمّ رائحة المنثور، ولقد رأينا المعتمدين من علماء الدين لا يطلقون القول فيه بمنع ولا جواز، ولا يحملون الفتوي [٥] في عراق ولا حجاز،/ بل الفتوى المعتمدة التي القلب إليها ساكن، أن الأمر في السماع يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن: [البسيط]

كانوا معاني المغاني حين ينشدهم ... شاد يجاوبه حسن وإحسان

ما إنت حين تغنّي في منازلهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان

قلت: فلم يجلسون الوارد على باب الرباط، ولا يتلقونه أولا بالرحب والانبساط؟

قال: لأنه بطاري السفر، قد تهجن طبعه ونفر، فأرادوا بذلك رياضة نفسه، ولينسى


[١] في نسخة ش: من المقيت.
[٢] الجمجم: المداس (المعجم الوسيط: جمجم) ، وهو ضرب بسيط من الأحذية.
[٣] نحاتته: أي مسحوقه.
[٤] الفخيخ: تصغير فخ، وهو ما يصاد به.
[٥] في ب، ل: الفنا.

<<  <   >  >>