للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في نفس العيد، بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح في مكان، كان الكفار يعملون فيه عيداً، وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد، والسائل لا يتخذ المكان عيداً، بل يذبح فيه فقط، فقد ظهر أن ذلك سداً للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم، خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة، وذريعة إلى اتخاذها عيداً، مع أن ذلك العيد إنما كان- والله أعلم - سوقاً يتبايعون فيها، ويلعبون كما قالت الأنصار: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم، ولهذا فرق صلى الله عليه وسلم بين كونها مكان وثن، وكونها مكان عيد، وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان.

وفعل أعياد الكتابيين وغيرهم التي تتخذ ديناً وعبادة أعظم تحريماً من عيد يتخذ لهواً ولعباً؛ لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرَّمه. ولهذا كان الشرك أعظم إثماً من الزنا، ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين.

وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان، خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار - الذين قد يئس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب -، فالخشية من تدنسه بأوضار (١) الكتابيين الباقين أشد، والنهي عنه أوكد، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم. ويضاف إلى ما تقدم أيضاً: أن هذا الحديث وغيره، قد دلَّ على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محى الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك، ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد؛ لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يُصنع في الأعياد، وخصوصاً أعياد الباطل، من اللعب واللذات، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد، فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضي قائماً قوياً، فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد.

وهذا يوجب العلم اليقيني، بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعاً قوياً عن أعياد الكفار، ويسعى في دروسها وطمسها بكل سبيل، وليس في إقرار أهل الكتاب على


(١) - الأوضار: جمع وضر، وهو الدرن والدسم، أو وسخ الدسم، واللبن وغسالة السقاء، والقصعة ونحوهما. يراجع: لسان العرب (٥/٢٨٤) مادة (وضر) .

<<  <   >  >>