للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له» (١).

واختارت قريش -كبراً- أن تمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من العمرة أنفةً من أن تتحدث القبائل أنهم دخلوا مكة عُنوة، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي (٢) ليقوم بمهمة الحرب النفسية.

فلمّا قدم عروة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا محمد، أَجَمعت أوشاب الناس، ثم جئتَ بهم إلى

بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل (٣)، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً. وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً» (٤).

عندها كأنّ الكفَّةَ مالت لصالح المشركين، فبدرت من الصحابة أفعالٌ لم يكونوا يفعلونها من قبل (٥)، فسبَّه الصديق سبًّا مقذعاً، وأظهر الصحابة من دلائل التعظيم والحب شيئاً كبيراً، من الاقتتال على نخامته ووضوئه، وخفض أصواتهم عنده، وابتدار أوامره تنفيذاً.

«ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا فيه، إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم. وكأنهم قالوا بلسان الحال: مَن يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم، كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم» (٦).

ولقد أثمر رد المسلمين في خطاب المندوب القرشي، فإنه لما رجع لأصحابه قال لهم: "والله لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي، فلم أر أحداً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إنْ تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها


(١) انظر: سيرة ابن هشام ٣/ ٢٥٥ - ٢٥٦.
(٢) هو عروة بن مسعود بن معتِّب الثقفي. كان أحد الأكابر من قومه، وله دور كبير في تقرير الصّلح يوم الحديبيّة. قدم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع فأسلم، ثمّ عاد إلى قومه بالطّائف فقتلوه. انظر: الإصابة، ابن حجر ٤/ ٤٠٦ - ٤٠٨.
(٣) المقصود: النّساء والأطفال، والعُوذ -في الأصل- جمع عائذ، وهي النّاقة إذا وَضعت. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٣/ ٣١٨.
(٤) انظر: سيرة ابن هشام ٣/ ٢٦٠.
(٥) انظر: شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين ١/ ١٥٩.
(٦) انظر: فتح الباري، ابن حجر ٥/ ٣٤١.

<<  <   >  >>