للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هيئات بشريّة إلى غير ذلك، مع جهلنا بكيفيّة أفعاله، وجزمنا بأنها من العالم الغيبي الذي لا يُدرك بالحواس ولا يُفهم كنهه بالعقول.

ومثله يقال في فراره من المسجد عند الأذان والإقامة وله ضراط، فقد ثبت هذا في السّنّة، وتأوَّله بعض شرّاح الحديث، إلا أنّه لا يوجد ما يمنع من إثباته على الحقيقة، وفق كيفيّات غيبيّة لا سبيل للعقل البشري أن يدركها.

الأمر السّابع: وأمّا القول بأنّه ورد في السّنّة ما يخالف الفطر السليمة والأذواق المستقيمة كما في إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقع الذّباب في إنائه أن يغمسه ثم يطرحه ويتناول ذلك الشّراب، وأنّ في هذا الصنيع تقذير وزيادة تنجيس، فبيانه أنْ يقال:

صح في الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإنّ في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء) (١).

لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - العلّة من أمره بغمس الذّباب، وهذا البيان دليل على أنّه إنّما تكلم به عن طريق الوحي من الله (٢)، ولو كان مفتر على الله ما أتى بشيء من العلوم الغيبيّة التي قد يبادر من في قلبه مرض إلى التشغيب عليه بها.

إنّ تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الأمر دليل على أنّه قام بتكليف البلاغ عن ربه خير قيام، غير عابئ بطعن من يطعن، واستهزاء من يستهزئ.

والله - عز وجل - عليم بخواص مخلوقاته، وما فيها من الدّاء والدواء، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (٣).

إنّ المرء ليعجب من المنهجيّة التي يسلكها بعض النّصارى حيال النصوص الإسلاميّة -إن صحَّ أن تسمى منهجيّة- فإنّهم يُحمِّلون الدليل ما لا يحتمل، ويُلزمونه ما ليس بلازم. فقد رأى بعضهم أنّ هذا الإرشاد النبوي هو على سبيل الوجوب، وأنَّ على المسلم أن


(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء، ح٥٧٨٢، ص١٤٦٣.
(٢) انظر: شبهات حول السّنّة، عبد الرّزّاق عفيفي، ص١٦.
(٣) المرجع السّابق، نفس الصفحة. والشاهد في سورة الملك، الآية ١٤.

<<  <   >  >>