للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قبوله؛ لا سيما إذا كانوا رجال دين يجعل المحبة شعاره والتسامح ميزته ويقول لأتباعه:

"من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين" (١).

إن هذه المفارقة العجيبة لتستدعي مزيداً من الفحص والتأمل للبحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك الطغيان الأعمى، وذلك يستلزم أن ننظر إلى طبيعة وضع رجال الدين، وطبيعة ظروف دينهم، وطبيعة البيئة التي مكنتهم من فرض أنفسهم عليها.

أما طبيعة رجال الدين فقد كانوا سابقين لعصرهم في ناحية مهمة هي الناحية التنظيمية، إذ كانوا مؤسسة تنظيمية مركبة تركيباً عضوياً دقيقاً، من القاعدة العريضة الممتدة في كافة الأصقاع والأقاليم إلى قمة الهرم المتمركزة في روما، وهذه الميزة أكسبتهم نفوذاً مستمراً لا يقبل المنافسة وجذوراً عميقة يصعب اقتلاعها، ولذلك نلاحظ أن كثيراً من الأباطرة المتمردين على الكنيسة يفشلون دائماً في مواجهتها، ويرتدُّون صاغرين إلى الانضواء تحت ظلها، كما أن العالم الغربي المسيحي لم يستطع التخلص من قبضة الكنيسة إلا بعد الثورة الداخلية التي قادها المصلحون الكنسيون، والتي أدت إلى إضعاف الهيكل التنظيمي والسلطة المركزية وتشتيت ولاء الأفراد.

وكان من الممكن أن يتمتع رجال الدين بثمرات هذا التنظيم الفائق، ويسخروها لخدمة المصلحة الدينية، دون أن يكون ذلك داعياً للطغيان والاستبداد، ولكن الشرط الأساسي لذلك هو النية الحسنة والإخلاص المجرد، وهو شرط فقدته الكنيسة منذ أن فقدت الإيمان


(١) متى (٥): (٤٠ - ٤٢).

<<  <   >  >>