والنفس البشرية أينما كانت لا تخلو من حب الطغيان إذا تهيأت لها أسبابه وليس كخشية الله تعالى واستشعار رقابته وضعف الإنسان إزاء قدرته حاجز لها عنه، ولما كانت الكنيسة مفلسة من ذلك فقد آل الأمر إلى أن تكون هيئتها التنظيمية شركة دنيوية تطمح إلى النفوذ الاجتماعي والمغانم الزائلة، ثم تمكنت بوسائل شتى من أن تصبح قوة استبدادية غاشمة.
وليس ثمة شك في أن مركزها الديني هو الذي هيأ لها النجاح المطرد، وهذا يقودنا إلى البحث في طبيعة دينها وظروفه التي أتاحت لها ذلك.
سبق أن أشرنا إلى الاضطهاد البالغ الذي تعرض له أتباع السيد المسيح -عليه السلام- من بعده، ذلك الاضطهاد الذي أدَّى إلى تحول الدعوة المسيحية إلى دعوة سرية، فاختفى الكثير من دعاتها، وتستروا في أقاليم مختلفة وأخفوا معهم نسخ الأناجيل، بل دونوا الأناجيل آنذاك، وكتبوها بلغاتهم الخاصة، وظلوا يتناقلون نسخها سراً، إذ كانت تتعرض للحرق والمصادرة من قبل الروم، وكان الداخل الجديد في دينهم يأخذ عنهم التعاليم مشافهة بعد ترجمتها إلى لغته الدارجة، ثم يبثها في بني قومه سراً، أيضاً فإذا أشكل عليهم أمر رجعوا إلى الداعية الذي يملك نسخة لأحد الأناجيل، فيبين لهم رأي الإنجيل أو رأيه الخاص في ذلك الأمر، ولم يكن الدعاة يسمحون للأتباع بتمليك النسخ أو يطلعونهم عليها خشيةً على أنفسهم وعلى الكتب أيضاً، بالإضافة إلى كون عقلية الأتباع وظروف البيئة لم تكن تؤهلهم للأخذ المباشر أو الاستنباط والاجتهاد الذاتي، ويزداد الأمر صعوبة إذا كانوا يجهلون اللغة التي كتب بها الإنجيل.
كل ذلك أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية في أيدي