فئة قليلة من الناس واقتصار حق شرحها وتأويلها عليهم وحدهم، فلما انقضت عصور الاضطهاد، واعتنقت الدولة الرومانية الدين الكنسي، احتفظ رجال الكنيسة بحق قراءة وشرح الكتب المقدسة، وأيدتهم الدولة في ذلك؛ لتجمع رعاياها على عقيدة واحدة بإتاحة الفرصة للكنيسة للقضاء على الفرق المنشقة، وكما قلنا في سبب وجود رجال الدين ورث رجال الكنيسة عن أحبار اليهود صفاتهم الممقوتة من التعصب الأعمى، واتباع الهوى واحتكار الرأي، فظلت مصادر الدين الكنسي حكراً عليهم لا تقع عليها يد لباحث أو ناقد من غير رجال الدين، وكان باستطاعة الكنيسة أن تفرض كل شيء باسم الإنجيل وهى آمنة من أن أحداً لن يقوم حيالها بأدنى معارضة.
وهكذا ظلت مصادر الدين النصراني المحرف قابعة في خبايا الكنائس وزوايا الأديرة، تؤخذ تعاليمها مشافهة من أولئك الذين يزعمون القداسة والعصمة، وما دامت مصادر الديانة غير مكشوفة فكيف يعرف الناس مقدار صدق رجال الدين فيما يقولون عن الله؟! وكيف يمكنهم مناقشة الكنيسة فيما تمليه من عقائد وتشريع؟! لم يكن أمامهم إلا التسليم المطلق والطاعة العمياء.
وإذ قد اطمأنت الكنيسة إلى أن أحداً لن ينبس ببنت شفة يمس قداستها وصواب آرائها، فقد اشتطت وغلت في فرض سلطانها وتعميق هيبتها ووجدت الباب مفتوحاً إلى طغيان لا يلين ولا يرحم.
يبقى أن نعرض لطبيعة البيئة التي شهدت هذا الطغيان ومدى تأثيرها في بقائه واستحكامه، فنرى أنه كانت الغالبية العظمى من الروم وسكان مستعمراتهم من الأميين السذج الذين ألفوا العبودية والخضوع المستمر للقوى المسيطرة، وكانوا من الضحالة الفكرية على درجة ليست قليلة، وكان سكان أوروبا قبائل همجية، تعيش أسوأ مراحل التاريخ