الأوروبي كله، لا سيما العصور الأولى من القرون الوسطى، التي تسمى العصور المظلمة، واعتنق هؤلاء الديانة الرسمية للإمبراطورية، وأحلوا عبادة المسيح محل عبادة الامبراطور، لكنهم لم يتعرضوا ليقظة إيمان حقيقي، كتلك التي هز بها الإسلام نفوس معتنقيه، ورفع مستواهم الروحي والعقلي إلى آفاق عظيمة، بل ظلوا على تلك الحال من الهمجية والانحطاط حتى مطلع العصر الحديث ... لذا كان من الطبيعي للجماهير الغفيرة أن تنساق وراء عقولها السطحية وعواطفها الساذجة، فتصدق كل ما تسمع، وتؤمن بكل ما يقال، وكان رجل الدين هو كل شئ بالنسبة لها، فلم يكن هنالك أي أثر لعالم أو مؤرخ أو باحث، بل كان الظلام المطبق يسيطر على الحياة من كافة نواحيها، ورجل الدين هو الوحيد الذي يملك بصيصاً ضئيلاً، يتمثل في معرفته للقراءة والكتابة، وكونه الموجه الروحي للمجتمع ... وبيئة هذه حالها، وأمة هذه صفاتها، جديرة بأن توفر للطاغية حماية كافية ومناخاً صالحاً لفرض طغيانه في المجال الذي يريد، وإشباع رغبته التسلطية كما يشاء.
هذه الأوضاع والعوامل مجتمعة، وهي السلطة الكهنوتية المنظمة، والمصادر غير المكشوفة، والبيئة البدائية، جعلت من الكنيسة مارداً جباراً وطاغوتاً جائراً يملك كل مقومات البقاء ولوازم الاستبداد، ويريد أن يسيطر على كل شي وفق إرادته وهواه.
ولم تدع الكنيسة جانباً من جوانب الحياة دون أن تمسكه بيد من حديد، وتغله بقيودها العاتية، فهيمنت على المجتمع من كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها البتة، وإن التاريخ ليفيض في الحديث عن طغيان الكنيسة ويقدم نماذج حية له في كل شأن من الشئون، ولنستعرض شيئاً من ذلك في نواح مختلفة من الحياة: