فالشيخ الصياد أفنى عمره في منازلة أقدار البحار، وقد توغل هذه المرة في أعماق المحيط لا تنقصه الخبرة ولا يعوزه السلاح، غير أنه يظل متشبثاً بإصرار مميت على أن تفوز شبكته بأكبر نصيب، وبعد معاناة قاسية ومغامرات مضنية يظفر بما يروي أحلامه، ويجنح بزورقه طالباً بر الأمان، لكنه يفاجأ بعقبات ومهاجمات شتى تجعل الاحتفاظ بالصيد أعظم مخاطرة من الحصول عليه، وينفذ زاده وتتحطم بقايا سلاحه وتخور قواه والتماسيح والقرشان العظيمة لا تكف غاراتها الشرسة على زورقه، وأخيراً وبعد جهد جهيد وجراح بالغة يصل إلى الشاطئ وليس لديه من الصيد الثمين إلا هيكله العظمي في حين قد فقد كل شيء!!
وكما صور همنغواي أزمة الحضارة البشرية وأزمته الشخصية فقد تقمص شخصية الشيخ الخاسر، وآثر أن يغادر الحياة بعد أن ظهرت له أعراض الكارثة، ولم يجد وسيلة إلا أن يبادرها بالانتحار (١).
٣ - الساعة الخامسة والعشرون:
رواية طويلة ألفها الكاتب الروماني كونستانتان جيورجيو وهي من أعظم الأعمال الأدبية التي تناولت بالتحليل المستفيض والتصوير الدقيق مأساة الضياع المتمثل في انهيار الحضارة الغربية وسحق إنسانية الإنسان، يقول فيها:
إنني أشعر أن حدثاً خطيراً قد وقع حولنا، إنني أجهل أين انفجر ومتى بدأ وكم يدوم؟ لكنني أشعر بوجوده، لقد أخذنا في الدوامة ولسوف تمزق هذه الدوامة جلودنا وتحطم عظامنا الواحد تلو الآخر، إنني أشعر بهذا الحدث الهائل شعوراً لا يضاهيه إلا إحساس
(١) انتحر همنغواي سنة (١٩٦١) (انظر مجلة العربي عدد: ٥٢) والقصة ترجمها: منير البعلبكي.