ومن زوال علم أصول الفقه، وما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يشبه ما يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية، وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن، ولما كانت أعمال كل نوع من أنواع المخلوقات، وكل عضو من أعضاء فرد ذلك النوع منقادة لنواميس طبيعية عمومية خصته به الحكمة الإلهية كان لا يمكن مخالفة هذه النواميس بدون اختلال للنظام العام والخاص، وهذه النواميس الطبيعية التي خصت بها العالم القدرة الإلهية عامة للإنسان وغيره، فينبغي للإنسان ألا يتجارى على هذه الأسباب ويتعدى حدودها، حيث أن المسببات الناتجة عنها منتظمة محققة، فعلى الإنسان أن يطبق أعماله على هذه الأسباب التي تقدم ذكرها، ويتمسك بها وإلا عوقب عقاباً إلهياً لمخالفة خالق هذه الأسباب، وأغلب هذه النواميس الطبيعية لا يخرج عنها حكم الأحكام الشرعية، فهي فطرية خلقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع الإنسان، وجعلها ملازمة له في الوجود، فكأنها قالب له نسجت على منواله وطبعت على مثاله، وكأنما هي سطرت في لوح فؤاده بإلهام إلهي بدون واسطة، جاءت بعدها شرائع الأنبياء بالواسطة وبالكتب التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهي سابقة على تشريع الشرائع عند الأمم والملل، وعليها في أزمان الفترة تأسست قوانين الحكماء