للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"أُلهمت أن ما أقوله حق وصواب"، فيقول الآخر: "ألهمت أن ما تقوله خطأ وباطل"، ثم نأتي ونقول لهم: "إنا أُلهمنا أن ما تقولونه خطأ وباطل"، فإن قالوا: "هذا دعوى منكم"، قلنا: "ما تقولونه أنتم أيضا دعوى".

فإن قالوا: "إنكم لستم من أهل الإلهام"، قلنا لهم: "ولستم أيضًا من أهل الإلهام، وبأي دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا؟ " (١).

وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله-:

(ويُقَالُ لمن قال بالإلهام: ما الفرق بينك وبين من ادَّعى أنه أُلْهِمَ بطلانَ قولك، فَلَا سبيل له إلى الانفصال عنه، والفرق بين هذه الدعوى، ودعوى من ادعَى أنه يُدْرِكُ بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سُئِلَ عَمَّا ذكرنا أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر به سواء بسواء، وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما لا يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهامًا، أو إدراكًا، فصَحَّ بلا شك أنهم كَذَبَةٌ، وأن الذي بهم: وَسْوَاسٌ (٢)؛ وأيضًا، فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أُعْطِيَ كل امرئ بدعواه المُعَرَّاة، لما ثَبَتَ حَقٌّ، ولا بطل باطل، ولا استقر ملك أحد على مال، ولا انتُصِفَ من ظالم، ولا صحَّتْ ديانة أحد أبدًا؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: أُلْهِمْتُ أنَّ دَمَ فلانٍ حلال، وأن مَالَهُ مباحٌ لي أخذه، وأن زوجه مُبَاحٌ لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وَسَاوسُ كثيرةٌ، لا يجوز أن تكون حقًّا، وأشياء متضادة يُكذِّبُ بعضها بعضًا، فلابد من حاكم يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله) (٣) اهـ.


(١) انظر: "فصول البدائع في أصول الشرائع" للفناري (٢/ ٣٩١)، و"قواطع الأدلة" (٥/ ١٢٧)، و"تقويم الأدلة" ص (٣٩٥).
(٢) الوسوسة: إلقاء معنى في النفس بمباشرة سبب نشأ من الشيطان له.
(٣) "الإحكام في أصول الأحكام" (١/ ١٧، ١٨).

<<  <   >  >>