للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروى البخاري وآخرون غيره بسند صحيح عن أيوب، عن عكرمة: أن عليًّا حرق ناسًا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم أنا بالنار، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"، وكنت قاتلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". فبلغ ذلك عليًّا فقال: ويح ابن أم الفضل، إنه لغواص على الْهَنَات١.

وقد خلَّف ابن عباس تراثًا ضخمًا من العلم وكمًّا هائلًا من الفقه.

قال ابن حزم في كتاب "الإحكام"٢: جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتابًا.

وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في العلم بحرًا ينشق له الأمر من الأمور، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل"، فلما عمي، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه -أو قال: كتب من كتبه- فجعلوا يستقرئونه، وجعل يُقدِّم ويؤخر، فلما رأى ذلك قال: إني قد تَلِهْتُ من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فيلقرأ عليَّ، فإن إقراري له كقراءتي عليه،

قال: فقرءوا عليه٣.


١ أخرجه البخاري "٦/ ١٠٦" في الجهاد: باب لا يعذب بعذاب الله، و"١٢/ ٢٣٧" في استتابة المريدين: باب حكم المرتد والمرتدة، والنسائي "٧/ ١٠٤" في تحريم الدم: باب الحكم في المرتد، من طرق عن أيوب، عن عكرمة. دون قوله: "فبلغ ذلك ... "، وأخرجه أبو داود "٤٣٥١" في أول الحدود، والحاكم "٣/ ٥٣٨، ٥٣٩" وفيه: "فبلغ ذلك عليًّا فقال: ويح ابن عباس". قال الخطابي: قوله: "ويح ابن عباس" لفظه لفظ الدعاء عليه ومعناه المدح له والإعجاب بقوله، وهذا كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أبي بصير: "ويل أمه مسعر حرب"، وكقول عمر -رضي الله عنه- حين أعجبه قول الوادعي في تفضيل سُهمان الخيل على المقاريف: "هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به" يريد: ما أعلمه، أو ما أصوب رأيه، ولفظ الترمذي "١٤٥٨" في الحدود: "فبلغ ذلك عليًّا فقال: صدق ابن عباس"، ولفظ البلاذري "٣/ ٣٥": "فبلغ ذلك عليًّا فقال: لله در ابن عباس".
٢ الإحكام في أصول الأحكام "٥/ ٩٢"، ونقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء "٣/ ٣٥٨".
٣ سير أعلام النبلاء "٣/ ٣٥٤، ٣٥٥"، وقال الذهبي عقبه: تلهت: تحيرت، والأصل: ولهت، كما قيل في وجاه تجاه. وفي لسان العرب مادة "تله" التله: الحيرة، تله الرجل يتله تلهًا: حار، ورأيته يَتَتَلَّه: أي يتردد متحيرًا. وقيل: أصل التله بمعنى الحيرة: الوله، قلبت الواو ياء، وقد وله يوله، وتله يتله، وقيل: كان في الأصل: ائتله يأتله، فأدغمت الواو في التاء فقيل: اتَّله يتَّله، ثم حذفت التاء فقيل تَلِه يتلَه، كما قالوا: تَخِذ يتْخذ، وتقي يتقى، والأصل فيهما: اتَّخذ يتَّخذ، واتقى يتقي. وقال الأزهري: تَلِهتُ كذا وتلهت عنه: أي ضللته وأُنْسِيتُه.

<<  <   >  >>