ومن جهة أخرى، فإن الحديث الذي رواه الإمام مسلم ذكر النووي عن القاضي عياض في شرحه له ثلاث إجابات كلها مقبولة ومحتملة:
الأولى: أن نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان موجهًا لمن يثق بحفظه خشية اتكاله على الكتابة، وأما من لم يثق بحفظه فقد أذن له بالكتابة.
الثانية: أن حديث النهي منسوخ بحديث الإذن بالكتابة؛ فقد كان النهي حين خِيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة.
الثالثة: أن النهي كان منصبًّا على الكتابة في صحيفة واحدة "أي: كتابة السُّنَّة مع القرآن في صحيفة واحدة" خشية الاختلاط، وحتى لا يشتبه على القاريء.
قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كبير في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف، واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي، فقيل: هو في حق مَن يوثق بحفظه ويُخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على مَن لا يوثق بحفظه كحديث:"اكتبوا لأبي شاه"، وحديث صحيفة علي -رضي الله عنه- وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أنسًا -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث، وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، قيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة، والله أعلم١.
١ شرح صحيح مسلم للنووي "١٨/ ٣٣٤-٣٣٩"، وانظر نحوه في مقدمة ابن الصلاح "ص٨٨" في النوع الخامس والعشرين، وفي معالم السنن للخطابي، هامش سنن أبي داود "٤/ ١٦" في تعليقه على حديث زيد بن ثابت رقم "٣٦٤٧".