للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار، وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كان خوف الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوفًا من أن يكونوا -مع الإكثار- يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلَّت روايته أكثر من ضبط المتكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يُؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول: "فمن حفظها ووعاها فليحدث بها"، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم؛ بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويأمرهم بالإقلال منه، وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله: من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته؟! ثم قال: ومن خشي ألا يعيها فلا يكذب عليَّ، وهذا يوضح لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث هذا؛ وإنما يدور على "بيان١" عن "الشعبي" وليس مثله جدة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنن والكتاب.

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: ٢١] ، وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] ، ومثل هذا في القرآن كثير، ولا سبيل إلى اتباعه٢ والتأسي به والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه، فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى مَن لم يسمعها ... " الحديث، وفيه الحض الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم، وقال: "خذوا عني في غير ما حدثت وبلِّغوا عني"، والكلام في هذا أوضح من النهار لأُولى النهى


١ هو بيان بن بشر الأحمي أبو بشر الكوفي، موثق، وطعن ابن عبد البر في روايته هذه؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، وهذا لا يمنع صحتها؛ ولكن يجمع بينهما. انظر: الإحكام لابن حزم "٢/ ١٣٧"، وانظر كلام ابن عبد البر الآتي.
٢ أي: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

<<  <   >  >>