للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والاعتبار، ولا يخلو الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يكون خيرًا أو شرًّا، فإن كان خيرًا -ولا شك في أنه خير- فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شرًّا فلا يجوز أن يُتوهم أن عمر يوصيهم بالإقلال من الشر١.

وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.

وذكر مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز عن قيس بن عبادة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: من سمع حديثًا فأداه كما سمع فقد سلم.

ومما يدل على هذا ما ذكرناه فيما يروى عن عمر أنه كان يقول: تعلموا الفرائض والسُّنة كما تتعلمون القرآن. فسوى بينهما.

وكتب عمر: تعلموا السُّنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن. قالوا: اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به، وعمر هو الناشد للناس في غير موقف؛ بل في مواقف شتى: من عنده علم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا، نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وفي الجنين يسقط ميتًا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك.

وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها". وعمر أيضًا هو القائل: خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وهو القائل: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.

ثم يقول ابن عبد البر: وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئًا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وإن كان الإكثار يحمل الإنسان على التقَحُّم٢ في أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء، وغث وسمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


١ انظر: إعلام الموقعين "١/ ٥٥" لمعرفة المزيد من حرص سيدنا عمر على السُّنة.
٢ التقحم: عدم المبالاة.

<<  <   >  >>