ولغة القرآن الكريم مغايرة منذ نزولها للغة العرب، لم تكن كلغة الشعر الجاهلي، ولم تكن شبيهة بكلام خطباء العرب وكهانهم ولم يشبهها فيما بعد ذلك من زمان كلام من الكلام.
إن "التغيرات" التي أصابت الكلام العربي الفصيح لم تصب أصول التركيب اللغوي في كثير، فلن يضر رصدها وتسجيلها المحافظة على كتاب الله العلي القدير، ولا على آثارنا الأدبية والفكرية. بل إن رصدها فضلا عن كونه واجبا علميا، سيوسع آفاق فهمنا للغتنا وتاريخها. وإن الفهم الصحيح للغة وتاريخها، من أولى الخطوات اللازمة عند النظر في "صونها" أو "الارتقاء" بها، أو "تطويعها" لتجاري مقتضيات العصر الحديث وحضارته.
إن الملاحظة الصوتية لنقل الكلام العربي الفصيح كما يتمثل في الأقطار العربية المختلفة لحاكمة بأن نطقه في مصر يختلف عن نطقه في العراق، ونطقه في العراق يغاير نطقه في ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب.
إن دراسة وجوه الخلاف في نطق الكلام العربي الفصيح في الأقطار العربية المختلفة ليس يعني بحال من الأحوال الدعوة إلى تفتيت "الوحدة العربية" أو إلى إضعافها. وأعجب ما في الأمر أنا لا نتخذ ما بين العرب من خلافات في هيئات الجسوم وسمات الوجوه، ولا نتخذ ما بين بلداتهم من خلافات في الأجواء والأنهار والأرضين، ولا ما بينهم من خلافات في الأزياء والمآكل والمشارب والزينات، نحن لا نتخذ ذلك كله أو شيئا منه مبررًا للحكم على من يجهر به بأنه "رجعي" أو "استعماري" أو "ضيق الأفق"!. ولكن أكثرنا لا يقبل التصريح بظاهرة يسيرة صادقة فيما يتعلق بكلام العرب! ويتصور أن هذه الملاحظة وأشباهها "ستقضي" على العربية شر قضاء، أو ستصيبها بجرح بليغ، ولا يدري أنه بذلك يحكم على نفسه بأنه يجهل كيف تحيا اللغات وتتطور.