للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنهم ليقدسون النحو قدسية بالغة، فلو أخبرتهم أن هذا "النحو" كان من الممكن أن يتخذ صورة أخرى لو أنه كان قد أقيم على أسس أخرى، وأنه قد يأتي عالم فيضع للعربية "نحوا" جديدا يغاير هذا النحو المألوف الذي نتدارسه لاختلط عليهم الأمر ولم يحسنوا إدراكه.

فلا بد من أن نظهر لهم أن آية لغة من اللغات أو لهجة من اللهجات، أو أية صورة من صور الكلام الذي تستعمله جماعة من الجماعات "منظمة" بطبعها، تحتوي على "قواعد" خاصة بها، وأن مهمة اللغوي أو النحوي أن يصف هذه اللغة أو اللهجة أو هذه الصورة من صور الكلام، مهمته أن يكشف عن حقائقها و"قواعدها"، أن يدرك ويقرر طرق إصلاحها. ولما كان اللغوي أو النحوي واصفا محللا دارسا لشيء منظم بطبعه، جاز أن يختلف تقرير هذا الوصف والدرس والتحليل من عالم إلى عالم، حسب الأسس التي يقيم عليها كل درسه، والمناهج التي يتبعها، والوسائل التي يصطنعها، فـ"النحو" وكثير غير النحو من وجوه دراسة لغة من اللغات وصف لجانب من جوانب هذه اللغة، أو محاولة للوصف.

ولو ضربنا مثلا من عالم الطبيعة قاصدين التقريب والتوضيح لا التشبيه والتمثيل لقلنا أن "المجموعة الشمسية" تسير على نظام معين منذ الأزمان القديمة، فهي "منظمة" في ذاتها، ولو عجزنا نحن عن إدراك هذا النظام فليس معنى هذا أنها غير منظمة، ولو اتضح لنا بعد زمن أن في وصفنا لهذا النظام وتقريرنا لحقائقه خطأ أو أخطاء، فليس يعني هذا، ولا ينجم عنه بالضرورة، أن نظامه قد أصابه الاختلال، وعراه الخطأ. إنها شيء منظم بطبعه، ثم يأتي عالم فيصف هذا النظام، أو يحاول وصفه حسب ما أوتي من "علم".

وإنا لنخطو خطوة أخرى في سبيل التقريب فنقول: إن القدماء من الجغرافيين كانوا يعتقدون أن الأرض "مسطحة" وكانوا يرتبون على ذلك نتائج كثيرة، ثم تغيرت هذه النظرة و"أثبت" العلماء أن الأرض "كروية"، فليس معنى ذلك أن الأرض كانت مسطحة لما كان يُظن أنها كذلك، أو أنها انقلبت كرة لما رؤي ذلك. إنها منظمة بطبعها، وعلى صفات وخصائص معينة، ومهمة الفلكي أو الجغرافي أن يحاول وصف هذا النظام، وقد يخطئ لقصور وسائله عن إدراك "الحقيقة"، ولقد يختلف عالمان يصطنعان نفس الوسائل في تقرير نتائج هذه الدراسة.

<<  <   >  >>