الأعز والنصر الأغر؛ فهم بن جدةٍ قبضوها، وعدةٍ رضوها، وارتقاب للفتح أكبر هممهم منه درك الثار، وانتصاف لأهل الجنّة من أهل النار، فأمّا الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العزّ فيما تنبته، وتنفي من الضيم ما تلك تثبته، وما ذكر الساخط، على المحل الساقط، منازل عادت على مبانيها أطلالاً، ومغانيها محالاً، وللعبد حالٌ يستقبل بها من النظر الكريم - أدامه الله تعالى - ما أعين الآمال إليه صور، ورجاء الجميع عليه مقصور، انتهى.
والغاية في هذا الباب ما كتب به - رحمه الله - من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب، ونصّ محل الحجة منه: نخصّ الجهة البعيدة الصّيت والاسم، الشهيرة العمل والعلم، درّة تاجنا، وضوء سراجنا، ونكتة احتجاجنا، أبقاها الله تعالى في أعيننا مناراً، ولأندلسنا فخاراً، على أنّه وإن بقيت المفاخر، فقد أودى المفاخر، وإن أضاء الطالع، فقد دجت المطالع، وغلب عليها عداةٌ زووا عنها وجوهنا، وأروا فيها مكروهنا، حتى إنّي أتيت بشعر فيه استسقاء للديار، على عادة الأشعار، فقلت:
زدنا على النائين عن أوطانهم ... وإن اشتركنا في الصّبابة والجوى
إنّا وجدناهم قد استسقوا لها ... من بعد أن شطّت بهم عنها النّوى
ويصدّنا عن ذاك في أوطاننا ... مع حبّها الشّرك الذي فيها ثوى
حسناء طاعتها استقامت بعدنا ... لعدوّنا، أفيستقيم لها الهوى؟ انتهى.
قلت: وما رأيت ولا سمعت مثل هذه الأبيات في معناها، العالية في مبناها، فإن فيها الإشارة إلى استيلاء النصارى - دمرهم الله - على تلك الديار، وثبوت قدمهم فيها على طبق ما حصل لهم فيه اختيار، مع إدماج حبّه لها الذي لا يشكّ فيه ولا يرتاب، واشتماله على المحسن التي هي بغية الرائد ونجعة المنتاب، ولكل أجلٍ كتاب، وإذا نفذ سهم القدور فلا عتاب.