للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وميض (١) شديد، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبّه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - اعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهراً، وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرّة جمادى الآخرة من السنة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامّة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوّام بالعمل بصلات حسنة جزيلة (٢) .

وأمّا مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة.

ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أوّل جماعة صلّيت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومن الغد صلى الناصر فين الجمعة، وأوّل خطيب (٣) به القاضي المذكور.

ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتّة، وما دخل إليه قطّ أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر جهبذ، وفي هذه الطبقات


(١) ك: وبيص أي تلألؤ - وهو صواب أيضاً -.
(٢) ك: حسنة جليلة جزيلة.
(٣) ك: وأول من خطب.

<<  <  ج: ص:  >  >>