للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغنمت، فاسترقّ الصغار، وضرب أعناق الكبار، وألقى جثثهم حتى سدّ بها المدخل الذي من جهته، وصارت سراياه تخرج فلا تجد إلا بلداً خراباً، فلمّا طال البلاء على العدو أرسلوا غليه في طلب الصلح، وأن يخرج بغير أسرى ولا غنائم، فامتنع من ذلك، فلم تزل رسلهم تتردد إليه حتى سألوه أن يخرج بغنائمه وأسراه، فأجابهم: إن أصحابي أبوا أن يخرجوا، وقالوا: إنّا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، فنقعد ههنا إلى وقت الغزاة، فإذا غزونا عدنا، فمازال الإفرنج يسألونه إلى أن قرر عليهم أن يحملوا على دوابهم ما معه من الغنائم والسبي، وأن يمدّوه بالميرة حتى يصل إلى بلادهن وأن ينحّو جيف القتلى عن طريقه بأنفسهم، ففعلوا ذلك كلّه، وانصرف.

ولعمري إن هذا لعزٌّ ما وراءه مطمح، ونصر لا يكاد الزمان يجود بمثله ويسمح، خصوصاً إزالتهم جيف قتلاهم من الطريق، وغصصهم في شرب ذلك بالريق.

ومن مآثره التي هي في جبين عصره غرّة، ولعين دهره قرّة، أنّه لما ختن أولاده ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي، ومن أولاد الضعفاء عدد لا ينحصر (١) ، فبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار، خمسمائة ألف دينار، وهذه مكرمة مخلّدة، ومنّة مقلّدة، فالله سبحانه يجازيه عن ذلك أفضل الجزاء، ويجعل للمسلمين في فقد مثله أحسن العزاء.

ومن مناقبه التي لم تتفق لغيره من الملوك في غالب الظنّ (٢) ، أن أكثر جنده من سبيه على ما حققه بعض المؤرخين، وذلك غاية المنح من الله والمنّ.

ومن أخباره الدالة على إقبال أمره وخيبة عدوّه وإدباره، أنّه ما عاد قطّ من غزوة إلا استعدّ لأخرى، ولم تهزم له قطّ راية مع كثرة غزواته شاتية صائفة وكفاه ذلك فخراً.


(١) ك: لا يحصر.
(٢) كذا في ق ك ط ج، وفي مطبوعة ليدن: في غابر الزمن.

<<  <  ج: ص:  >  >>