لم يشكروا نعمة ما خولوا ... فبدلوا الملح من العذاب ولو خفت صوت هذا التبرير، لارتفع صوت العاطفة الحزينة على ضياع الوطن. والتبرير نوع من التعزي، وهو في الوقت نفسه تهرب من مواجهة الألم ونبعه الحقيقي. أليس أبو العرب الصقلي قد فقد وطنه كما فقده ابن حمديس؟ فكيف كان وقع الشتات في نفسه؟ ذهب يفلسف ذلك التشرد على طريقة التصبر الكاذب ويقول:
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي كل تراب بلد، وكل العالمين أقارب - صلة ميتة، لم ينفخ فيها التجاوب الشعوري شيئاً من روحه فيجعل منها وطناً.
ومن الطريف أن البارون فون شاك تنبه إلى أن أبا العرب راح يقول عند ما خرج من صقلية " إن وطنه فارقه " - لا أنه فارق وطنه، وهو ملحظ مبني على قول الشاعر:
ويا وطني إن بنت عني فإنني ... سأوطن أوكار العتاق النجائب والشاعر لم يقصد إلى هذا الفهم " الحرفي "، ولكن التعبير ذو دلالة صادقة على نفسية أبى العرب، فهو بالهفوات اللسانية أشبه، وإن كان صحيحاً مقبولاً.
ثم إن سقوط صقلية لم يتخذ في نفوس الصقليين شكل المأساة بالفتح النورماني، لأن النورمان لم يلجئوا الناس إلى فراق دينهم أو إلى الهرب عن أوطانهم بل أبقوهم حيث هم، واحتفظوا لهم بما كانوا يتمتعون به من حقوق، ولذلك لم يشعر كثير منهم أن وطنهم ضاع، كما شعر الأندلسيون. وهذه حقيقة هامة في فهم الرابطة بينهم وبين وطنهم، إلا ابن حمديس فإنه بكي ضياع الوطن، وبكي شبابه في ذلك الوطن لأنه شهد وقفة بلده أمام الغزاة