للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حتى إن الصقليين لما غضبوا من سياسة الأكحل وابنه واستقدموا عبد الله بن المعز، عادوا فندموا على ما فعلوه في حقه.

ولما مات مستخلص الدولة رثاه ابن الخياط وذكر أمراء من بني الحسين وعزاهم عن فقد الجزيرة بقوله:

لِيُسْلكم أنّ الجزيرةَ ... كما قيلَ في الأمثال لحمٌ على وضمْ

تركتم بقايا حسنكمْ في خرابها ... كما ذبَلَ النوار في خلل الحمم

رجوهٌ كأنّ الله قال لمائها ... ترقرق حياةً وامزج الحسن بالكرم

كأنهم فوق الأسرة أنجم ... سعودٌ وفي الهيجا ضراغمة بهمْ وهذه الأبيات لا تصور إخلاصاً فحسب، بل تصور تفانياً في الحب - في حب قوم كانوا حماة للأدب والفنون - وحسبك أن الشاعر نسي وطنه، ولم يجد في حاله البائسة ما يبكيه، فوطنه لحم على وضم، وما أدق هذه الكلمة في وصف الحال التي صارت إليها صقلية في تلك الفتنة، ولكن من العجب أن يكون هذا شيئاً يتسلى به بنو أبي الحسين.

وهنا تشعر كيف أن ابن الخياط انساق مع الحزبية وتشفي بحال الجزيرة التي أصبحت أشلاء ممزقة، وأشبع في نفسه ونفس أسياده شعورهم بأن صقلية تجني لقاء ما قدمت، لا من إساءة اقترفتها في حق نفسها، ولكن من خطأ اقترفته في حق الكلبيين. وهو إخلاص شاعر عاطفي، في ساعة عاطفية، استطاع أن يقول:

تركتم بقايا حسنكم في خرابها ... كما ذبل النوار في خلل الحمم فجعلنا نتناسى بهذه الإجادة في التصوير شدة نقمته على وطنه - كانت صقلية حمماً، كان بركانها السياسي يقذف بتلك الحمم كما يقذف إتنا بالحمم فيتلف المزارع والكروم ويذبل النوار.

وهكذا أصبح اُلحسنُ الذي تركه بنو أبي الحسين تفاريق ذابلةً منبثةً هنا وهناك في منطقة قد اكتست بالسواد.

<<  <   >  >>