فهو مشغول بقياس القادم على الماضي ولكن هذا القياس يخيب ظنه ويرد تأويله في نحره.
ومن جراء هذه الحيرة تجده تعلق بالحاضر لا بالماضي ولا بالمستقبل، بينما قضت الظروف على ابن حمديس مثلا أن يعيش دائماً في ماضيه، ولذلك تسمع ابن الخياط يقول:
ما كان أمس فقد فات الزمانُ به ... وما يكون غداً في الغيب موعودُ
وبين ذينك وقتٌ أنت صاحبه ... في حالتيه فمذمومٌ ومحمود وتعلو هذه الفلسفة عنده وتكون على أشدها في قوله:
تمتعْ بالمنام على شمال ... فسوف يطولُ نومكَ باليمين
ومتعْ من يحبك من تلاق ... فأنت من الفراق على يقين وقد كان وصف الممدوح بنفاذ البصيرة وبعد النظر واستطلاع الغيب ديدن المداحين من شعراء صقلية، وليس لهذه الظاهرة صلة بفكرة الألوهية، ورفع الممدوح إلى مرتبة علية، ولكن فيها شيء من سخرية الواقع بالصقليين لإحساسهم بالعجز عن النفاذ في هذا الباب المغلق، وليس في حياتهم السياسية ولا في شوراهم الاجتماعية شيء من بعد النظر، لأن المصلحة العاجلة كانت تبتسر أفكارهم، وتختزل لباقتهم في حساب النتائج، أما سخرية المستقبل بآراء ابن الخياط في ممدوحيه فغنية عن التنويه بها، فقد كان من مصيبة أولئك الممدوحين ببعد النظر أن أفقدهم بعد نظرهم الجزيرة، وأما سخرية الغيب بابن الخياط نفسه فهي تلك النومة الطويلة على اليمين.
بهذه الفلسفة في الغد والوقوف الحائر عند مشكلته نرانا إزاء شاعر صقلي ذي فلسفة ذات معالم بينة، وقد رأينا ابن حمديس ذا مذهب في اللذة. وهذا شاعر ذو مذهب في تأمل الحياة، وكلاهما صادق في استمداد تلك الفلسفة من واقع حياته بصقلية، وقد كانت مشكلة الغد المحجوب في حياة الصقليين واقعاً