اجتماعياً وسياسياً - لا قدراً فحسب - فهم على أطراف خطر دائم من جيرانهم ومن أنفسهم، فليست المشكلة هنا، كما يراها كل فرد، ولكنها قضية الجماعة التي تعيش متوجسة خائفة فإذا ثقل عليها الخوف والتوجس، تبلد إحساسها بما كان وما سيكون، وقنعت من دنياها بالحاضر تحياه إلى أن يقع بها على حدود الزمان المقبل، وهكذا أبداً.
وقد كان ابن الخياط من جراء واقعه الذي خلق فيه تلك الفلسفة يعيش في انتظار الأحوال أن تنقلب إلى أحسن ليعانق انقلابها ويحييه. أرأيت إليه وهو يرتفع ببني أبي الحسين ويتحدث عن بقايا الحسن وعن ذبول النوار وعن تلك الوجوه التي مزج ماؤها بالكرم، أرأيت إليه كيف انقلب في ساعة واحدة لما استوى ابن الثمنة على غارب الأمر وراح يسير في موكبه مهللا يقول:
سر حيثُ فأنتَ وحدك عسكرُ ... والناسُ بعدَكَ فضْلةٌ لا تذكرُ ولقد شهد ابن الخياط فتنة صقلية فلبس فيها عباءة الحكيم، وذهب يحذر قومه أمرها ويحدثهم عن صدور الأمر الكبير من الصغير، والنار من الشرارة، ويقول:
وقلتُ تلاَفوا شجة الدهر إنها ... إذا نغلتْ أعيت مطبة آس فإذا جرت إلى الويل قال لهم: ألم أنبهكم؟
لا يهنْ عليك حقيرٌ ... رب شأن يكون منه شئون وشجة الدهر التي نغلت وأعيت كل طبيب - هذا التعبير دليل على يقظة حسية في ابن الخياط لما كان يراه في وطنه، ولعل هذه اليقظة ثم اعتقاده أنه أدى واجبه بتلك النصائح هما الأمران اللذان خففا وقع الحزن على نفسه عند ضياع ذلك الوطن فلم يرثه بشيء.
ثم انتهت الفتنة بعد ما خرج ابن الثمنة من وسط اللهب فإذا ابن الخياط يطلب الحياة من جديد، ويعيش كما يريد الحاضر وينسى الماضي، لأنه خلق لحاضره وخلق حاضره له أملاً يكفيه حتى ينقضي، ولم يكن مثالياً لنقول إنه سقط دون مثله وتنكر لها.