هذه الدراسة لأنها هي القصائد الصقلية من حيث الروح والموضوع والزمن. وربما كان عددها لا يزيد عن تسع قصائد.
وليس معنى ذلك أنه نسي صقلية فلم يعد يحن إليها ولكن معناه أن تقلب الحياة به قد باعد بينه وبين تلك المشأة، وحكمت عليه السن بالنضج، واستولى له قدر من التجربة، وقدر من الضعف الجسماني، وكان لهذا كله أثر في تلوين فنه بلون جديد غير ذلك اللون الذي سنسميه صقلياً، وكان له أثره في تغير فلسفته ونظرته إلى وجوده، وإن لم تتغير نظرته إلى صقلية. وقبل أن أنتقل إلى تحليل قصيدته التي يمدح بها تميم بن المعز أود أن أقف عند هذه القصائد الصقلية وأجمل خصائصها العامة لتكون أساساً لما بعدها من نظرات.
هذه القصائد الصقلية من اصدق شعر ابن حمديس عاطفة، وسمتها العامة القوة، لقوة الموضوع، ولذلك نحس أن الشاعر يتدفق فيها بكلام متحمس لا يحتاج إلى تلوين أو تصوير، فليس فيه سند من صنعة، وليس فيه وقوف عند التشبيه وعبادة له. وتغلب عليها روح الجندي الفارس الذي يغرق في الحب والحرب، وفيها النواة الأولى لما سيكون موضوعاً رئيسياً للشاعر - أعني وصف السفن والمعارك البحرية، إلا أن القصائد التي قالها قبل أن يغادر صقلية تدل على أنه كان يعني باللذة أكثر من أي شي آخر، وإذا كان لنا أن نحكم منها على مستقبل شعره، قلنا: إنه كان يصبح شاعر حب وخمر، وإن سواهما من الموضوعات كان يكون ثانوياً بالنسبة إليه. وهذه القصائد الصقلية الخالصة فيها ذهاب بالنفس شديد، ولكن الرحلة إلى الأندلس ثم ضياع الوطن غيرا كثيراً من ذلك الاتجاه، والتأثير الأندلسي يتضح في بعض المظاهر السطحية والمعاني العامة أكثر مما هو فر الروح. ولكن الأثر الصحيح هو الذي أحدثه ضياع الوطن: فنغمة الحزن الجديدة، وتغير نظرته إلى اللذة، والإحساس بالغربة كاملة، كلها تتصل بفقده لوطنه وكلها صبغت شعره بلون آخر غير قوة الشباب.
والقصيدة التي أشرت إليها تمثل هذا الطور من حياته، ففي تحليلها بيان