لمذاهبه في الشعر ولبعض خصائصه ويزيد هذا المذهب وضوحاً مقارنة هذه القصيدة بأخرى قالها بعد ثلاثين عاماً من نظمه للأولى، والموضوع في الثانية تشوقه وحنينه إلى صقلية، وبالمقابلة بين القصيدتين يظهر الأثر الذي أحدثه الزمن في شعر ابن حمديس.
أما القصيدة الأولى فمطلعها:
تدرعت صبري جنة للنوائب ... فإن لم تسالم يا زمان فحارب وفي هذه القصيدة يخلق ابن حمديس الفارس الذي فقد قرنه شخوصاً كثيرة ليبارزها، ويصب عليها نقمة يعجز أن يوجهها إلى عدالة السماء أو إلى القدر، فهو يطالعنا بالتحدي أو يطالع به الزمان الذي أودع عنده ثأراً لا يموت، ليقبل الزمن محارباً إن يشأ السلم، فإنه قد عجم من ابن حمديس حصاه لا تلين لعاجم، وهذه الفكرة الحربية تستولي على نفسه فيظن أنه في المعركة حقاً، فإذا به يتحدث عن السيف ومآربه فيه، ثم يشفق من هذه الثورة لأنه يحس ان غدره قليل إذا قيس بغدر الصاحب:
أتحسبني أنسى وما زلتُ ذاكراً ... خيانة دهري أو خيانة صاحبي
تغذى بأخلاقي صغيراً ولم تكن ... ضرائبه غلا خلافَ ضرائبي
ويا رب نبت تعتريه مرارةٌ ... وقد كان يسقى عذب ماء السحائب
علمتُ بتجريبي أموراً جهلتها ... وقد تجهلُ الأشياء قبل التجارب فمن هو ذلك الصاحب الخائن؟ أترانا وقعنا على السر الذي فارق الشاعر أجله صقلية وذهب يجوب في الأرض؟
وابن حمديس شاعر عاهد نفسه على أن لا يهجو ولكن أي ثورة هذه التي يعلنها في قصيدته؟ إنه يتحدى الزمن ويهجو الصحراء الإفريقية التي عوض بها عن وطنه:
بلادٌ جرى فوق البلادة ماؤها ... فأصبح منه ناهلاً كل شارب