للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في نفسه دون استدعاء واستجلاب، لأنها دائماً حاضرة لا تغيب. وقد يفهم من هذا أن بكاءه مع الآخرين كان تظاهراً، ولكن الأمر لم يكن كذلك فإن صقلية كانت تتمثل له في كل حزن فيبكي مصائب الآخرين بشعور من الحزن عميق الجذور، وذلك التمثل الدائم قد جعل حزنه في كل مرحلة وعند أية مصيبة يظهر صادقاً، وكانت كل فاجعة لديه تمثل له بناء ينقض لأمرين: لأن صقلية تهدمت وأصبح يراها طللا - ويبكي الأطلال من أجلها - ولأن ابن حمديس بناء كانت الأعوام تشرف به على السقوط. وحده بكائه على ماضيه مستمدة من علاقة هذا الماضي بصقلية، ومن ثم عاش في ذلك الماضي، فكان كالرحالة الذي يحدث عن عجائب ما رأى، وكان في استطاعته أن يكبر تلك الذكريات ويضخمها لأنه كان يطل على مشارف كل حاضر يجد من ابعد نقطة فيه، ومع ذلك فإن ابن حمديس لم يغل في لك.

٣ - واستولى عليه الشعور الدائم بالغربة وفي هذا وحده دليل كاف على أن البيئات الجديدة لم تكن تتجاوب مع قلبه. وقد بدأت الغربة في حياته حقيقة تتصل بيوم الفراق، وانتهت أكبر حقيقة تاريخية عاطفية في حياته ولما شاء أن ينظر إلى أول يوم أزمع فيه الرحلة، قرنه بالتنبؤ لها، وأنها ستكون رحلة وحسب، طرفها الأول يوم الفراق وطرفها الثاني الأجل. وربما لم يكن لهذا التنبؤ من وجود ولكن عز عليه أن لا يكون للاشفاق من فراق الوطن نصيب في قلبه منذ البداية وإلى هذا يشير قوله:

وقالت غرابيبٌ دَرجنَ ببينه ... سيستدرج الأيام وهو غريب

فما كان إلا ما قضي بالها به ... فهل كان عنها الغيبُ ليس يغيب؟ وتنبه هذا المعنى - الغربة - في حياته لما مات أبوه، وأصبح يرى في وطنه منبعاً يقذف بالغرباء سواء في ذلك من يموت أو من يرحل:

<<  <   >  >>