ذكراً عابراً، وإذا قيل له أنت قد سرقت قبلة وحد واجب عليك، تفقه في الجواب بقوله: إن الحد لا يجب إلا في السرقة من حرز، وإذا رأى المرجان الذي تصنع منه التماثيل اذكر داود الذي ألين له الحديد. وهو في هذه الإشارات والتلويحات يبني على أسس كانت حية فأحالها إلى التركز والثبات، وأخذ يستدعيها لتعينه على نقل أفكاره ومشاعره. وكلما انصرفت نفسه إلى الليل لم يستقل بتصوير تأثره، ولكنه كان دائماً يستحضر معنى النابغة فيه، فهو إلى جانب مخزوناته من فقه وقصص قرآنية يفيء إلى ما يملكه من معان شعرية ومن أمثال وحكم لقنها في نشأته. وكان اهتداؤه إلى هذه الأمثلة المقدسة المرعية هو الشاعرية الحقة في عصره، ومن الظلم أن نحاسبه في الشعر بما نحب ونكره، حتى التكرار الممل الواحدة في تلك العصور لم يكن أمراً منكراً يضيق به الناس كما نضيق به نحن اليوم.
فالشعر الصقلي بهذه النظرة هو الطاقة التي هيأت لها جميع النواحي في الحياة من اجتماعية وثقافية وسياسية، فهو كفاء بحاجة الناس الذين من أجلهم وجد وعن نفوسهم عبر. وعلى هذا الاعتبار - أي على أنه طاقة اشتراك في إخراجهم عوامل متعددة حتى كانت على هذا الوضع - يتقدم الدارس لدراسته. فالضعف فيه ظاهر بالنسبة لمقاييسنا. ويتجلى الضعف في أشد حالاته حين تكون المقاييس التي نستعملها فنية - عندئذ يتفتت هذا الشعر ولا يقف عند مقياس فني. ومن ثم تجنبت الحكم على فنية هذا الشعر قدر المستطاع، وإن كان من العسير كثيراً أن أدرس هذا الشعر وأخرس أثناء دراستي له صوت النقد، فاقل ما في هذه الطاقة وأضعفه جانبها الشعوري، حتى ليقال إن حظ هذا الشعر في الضعف وفير في كل ناحية - التعبير قاصر في الأكثر، والموضوع ميت لا حياة فيه. وقد حاول ابن حمديس أن يجعل صقلية موضوعاً لقصيدته، ويجعل فكرة الوطن محط التعبير في شعوره، فلم ينجح كثيراً وعاد يتأثر التقاليد الموضوعة ويخلط بين صقلية وبين الطلل - والدراسات الفقهية