تغمر هذا الشعر بقواعدها، والوعظ الديني يسيطر عليه بنصائحه ومقاييسه الخلقية. وفكرة المناظرة تنخر فيه - فمناظرة بين الشيب والشباب، والسوداء والبيضاء - وكلها تدور في رأس الشاعر الذي يحاول أن ينتصر للشيء وضده، ويظهر بذلك براعته. وهي لوثة جاءته من المشرق أيضاً. والشكل ظاهر على كل ما حوله عند الشاعر وهمه أن تتوفر له المقدمة ثم يتوفر له التخلص ولا يعنيه بعد ذلك شيء في اللب الذي تقوم به القصيدة. وللغزل والرثاء وغيرهما طابع لا يفارقه الشاعر. فكل غزله تذلل وشكوى وضراعة وسهر.. إلخ، وكل رثائه جار على نمط قول الشاعر الصقلي:" للموت ما يولد لا للحياة ".. والتذكير بأن النفس عارية مردودة، والتهويل بالفاجعة التي كادت تهز أرجاء الكون أو لعلها هزتها بالفعل - كما يفعل أبو تمام في مراثيه - هذه هي حال الشعر فيما يتناول من أمور، ودع عنك ما سقط الشعر دون تناوله فذلك كثير - وقد بينت منه طرفاً في فصول سابقة.
بهذا الضعف يقف الشعر الصقلي إذا قورن إلى أمثلة من الشعر العربي نفسه، فكيف لو حاولنا أن نضعه بازاء الشعر اليوناني كما فعل البارون فون شاك؟ إننا عندئذ نقدم قزماً إلى جانب عملاق ضخم، وهي مقارنة غير مستجلبة أو مقتسرة؟ على أي حال؟ لأن الأدبين عاشا في الجزيرة وخضعا لبيئة طبيعية متشابهة، وتكاد النتائج التي تتمخض عنها أية مقارنة لا تكون أسوأ من هذه النتائج التي تحصل عليها حين نجري المقارنة بين ما أنتجته صقلية الإسلامية وما أبدعته هيلاس (١) .
وقد لحظ شاك أن هذا الشعر العربي الصقلي يشارك الشعر العربي الأندلسي خصائصه الأساسية، وإذا قلنا الأساسية كان هذا القول صحيحاً لأن التمييز الفارق
(١) Shack؛ Poesie und Kunst der Araber in Spanien und Sicilien VOL، ٢. P.١.