ومن البديهي أن لكل مجتمع طرقه في التفكير، ونظرته الخاصة إلى الحياة، فهناك مجتمع يتصف بصراحة شديدة مثلا، يراها مجتمع آخر خشنة جافة، لا تتلاءم وقواعد السلوك العامة، وعندئذ نجد فراقا واضحا في لغة كل مجتمع، من هذين المجتمعين، فلغة المجتمع الأول تعبر بصراحة مباشرة، عن الأمور المشينة والعورات، والأعمال التي لا ينبغي أن تذكر في عبارات مكشوفة. أما لغة المجتمع الثاني، فتتلمس دائما حسن الحيلة وأدب التعبير، مستعملة المجاز في الألفاظ، والكناية بدلا من صريح القول، وكلما شاع معنى لفظ واستهجن، استبدلت به سريعا لفظا آخر، ولو كان مستعارا من لغة أجنبية.
والخلاصة أن علم اللغة أصبح يعد الآن، ضمن طائفة العلوم الاجتماعية، ويتصل اتصالا وثيقا بغيره من هذه العلوم، كالأديان، والتاريخ، والآداب، والسياسة، والاقتصاد وغيرها، وأن الظواهر اللغوية متأثرة تأثرا مباشرا بالظواهر الاجتماعية. وفي بعض الأحيان، لا تفهم الظواهر الأولى إلا بمساعدة الثانية، فنشأة اللغات، وتكونها، وانقسامها إلى أسر مختلفة، وانتشارها، وما يطرأ عليها في حياتها من قوة أو ضعف، وما تدخل فيه لغة من صراع مع غيرها، وانتصارها أو هزيمتها في هذا الصراع اللغوي، وما يستتبع هذا من تطورات في أصواتها، أو تغير في مدلولات ألفاظها، واستعارة الألفاظ وتبادلها بين اللغات، واخضاعها لقوانين الأصوات في اللغة المستعيرة، وغير ذلك كل هذه الظواهر التي ذكرناها وغيرها، لا يمكن أن تعرف على حقيقتها، إلا إذا ألقت عليها الظواهر الاجتماعية، ضوءا يكشف ما قد يخفى علينا من غزوات وحروب، وما يستتبع هذا من تغلب أمة على أخرى، ومن هجرات ترجع إلى طبيعة قاسية، أو أرض مجدبة، ومن انتشار