للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانت تعتمد على اللفظ الغريب، ونحن لا نثني على الإغراب في الألفاظ، ولكنا نستدل من هذه الرسالة الموجزة على أن الكتاب في عصر الحجاج، كانوا لايزالون يفكرون في صنعة أساليبهم، فتارة يعمدون فيها إلى السجع، وتارة يعمدون فيها إلى الإغراب اللفظي، فالكاتب لا يفكر في أداء معانيه فحسب، بل يفكر في تنميقها، وتزيينها بضروب من الحلية، كل حسب ذوقه، وكان يحيى بن يعمر لغويا، وكان ذوقه ذوق لغويين، فعمد إلى ألفاظ غير مألوفة كي يروع الحجاج، ويملك عليه لبه، ونفذ فعلا إلى ما أراده، إذ كان لحجاج يمل أحيانا إلى التفاصح بالغريب، على نحو ما مر بنا في خطبته بالكوفة اليت بدأها بأرجاز تزخر باللفظ الحوشي.

ولم يكن الحجاج يعمد إلى السجع في كتبه وسائله دائما، بل لعل ذلك إنما كان في القلة وفي الحين بعد الحين، أما الكثرة فتخلو من السجع. وليس معنى هذا أنه كان يتخلص من محاولة التأنق والتنميق، فقد كان يسعى إلى تحقيق ذلك دائما، وكان يتخذ إليه الإغراب في اللفظ حينا، وحينا يتخذ ما سبق أن لاحظناه في خطابته من الصور والاستعارات الطريفة، ومن خير ما يصور ذلك عنده ما رواه الجاحظ في خاتمة بيانه من أنه كتب إلى عبد الملك بهذه الرسالة١:

"أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أنه لم يصب أرضنا وابل٢ منذ كتبت أخبره عن سقيا الله إيانا، إلا ما بل وجه الأرض من الطش، والرش والرذاذ٣، حتى دقعت٤ الأرض واقشعرت٥ واغبرت٦، وثارت في نواحيها أعاصير تذرو٧ دقائق الأرض من ترابها، وأمسك الفلاحون بأيديهم من شدة الأرض واعتزازها٨، وامتناعها، وأرضنا أرض سريع تغيرها، وشيك تنكرها، سيئ ظن


١ البيان والتبيين ٤/ ٩٩.
٢ وابل: مطر شديد.
٣ الطش: المطر القليل: ونحوه الرش والرذاذ.
٤ دقعت الأرض: أصبحت لا نبات فيها.
٥ اقشعرت: تقبضت من الجدب.
٦ اغبرت: من الغبار.
٧ تذرو: تسفي وتحمل.
٨ اعتزازها: امتناعها، أو لعله من العزاز، وهي الأرض الصلبة.

<<  <   >  >>