للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البلاغة احتفظ بها الجاحظ في بيانه١، ومن المؤكد أن كثيرًا من تأملاتهم فيما بعد الطبيعة أخذ طريقه إلى العربية، وكان له صداه الواسع في الصوفية الإسلامية، وقد لعبت نظريتهم في التناسخ، وبعض مذاهبهم الدهرية مثل السمنية دورا هي الأخرى في نزعات الزندقة والإلحاد.

على أن هاتين الثقافتين الهندية والفارسية لا تقاسان في أهميتهما إلى الثقافة اليونانية٢ التي دخلت في العربية لهذا العصر، وكانت مبثوثة في مدارس جند يسابور والرها وحران ونصيبين، كما كانت مبثوبة في الكنائس الشرقية والغربية، وكان للسوريان الفضل الأول في نقل محتوياتها إلى العربية، وبدأ ذلك منذ عصر المنصور، إذ استدعى من جنديسابور أسرة بختيشوع، ليتولى بعض أطبائها علاجه، وجدت هذه الأسرة كما جد غيرها من السوريان في ترجمة الفلسفة اليونانية، وبلغت هذه الترجمة أوجها في عهد المأمون، فقد اتخذ في قصره خزانة الحكمة، وأخذ يضم إليها كنوز المعرفة العربية والأجنبية، وشجع على النقل والترجمة، وطلب من آسيا الصغرى، ومن بيزنطة نفسها المصنفات اليونانية، وفي عهده لمع اسم أبي يوسف يعقوب الكندي أول فلاسفة العرب المهمين، وأحد العقول الكبرى في تاريخ العالم.

والذي لا ريب فيه أن هذه الثقافات الدخيلة التي نقلت إلى العربية، وسعت طاقتها، بما اكتسبت من المعاني العقلية والفلسفية، وقد أصبح النثر العربي نثر ثقافة متشعبة، تمدها روافد كبيرة من إيران الهند واليونان، وليس ذلك فحسب، فقد أخذت تدخل في هذا النثر طرائق النظر الأجنبية، وأساليب الأجانب في تفكيرهم، والذي لا ريب فيه أيضًا أنه قام على هذا العمل نخبة من رجال الفكر الذين يحسنون اللغتين المنقول المنقول عنها، والمنقول إليها فإذا هم يستخدمون أسلوبا مولدا جديدا يحتفظون فيه للعربية بصورتها النحوية والتركيبية، ونحن لا نستطيع أن نقف على مدى إحسانهم في هذا الأسلوب، إلا إذا لاحظنا أن


١ البيان والتبيين ١/ ٩٢، وانظر زهر الآداب ١/ ٩٥.
٢ انظر الفصل الخاص بهذه الثقافة في الجزء الأول من ضحى الإسلام.

<<  <   >  >>